قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } رُوي في سبب نزول الآية وجوه ، أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب ويأكل عند زينب ، فتواطأت عائشة وحفصة على أن تقولا له نجد منك ريح المغافير ، قال : " بَلْ شَرِبْتُ عِنْدَها عَسَلاً ولَنْ أَعُودَ لَهُ " ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّم مَا أَحَلَّ الله لَكَ } . وقيل : إنه شرب عند حفصة ، وقيل عند سودة ، وأنه حرم العسل ؛ وفي بعض الروايات : " والله لا أَذُوقُهُ " . وقيل : إنه أصاب مارية القبطية في بيت حفصة ، فعلمت به فجزعت منه ، فقال لها : " أَلاَ تَرْضِين أَنْ أُحَرِّمها فلا أقْرَبها " ؟ قالت : بلى ؛ فحرّمها وقال : " لا تَذْكُري ذَلِكَ لأَحَدٍ " ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه وأنزل عليه : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } الآية ؛ رواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب بذلك .
قال أبو بكر : وجائز أن يكون الأمْرَانِ جميعاً قد كانا من تحريم مارية وتحريم العسل ، إلا أن الأَظْهَرَ أنه حَرَّمَ مارية وأن الآية فيها نزلت ؛ لأنه قال : { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } ، وليس في ترك شُرْبِ العَسَل رِضَا أزواجه ، وفي ترك قُرْبِ مارية رضاهنّ . فرُوي في العسل أنه حرّمه ، ورُوي أنه حلف أن لا يشربه . وأما مارية فكان الحسن يقول : حرّمها ؛ ورَوَى الشعبي عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلَى وحَرَّمَ ، فقيل له : الحرام حلال وأما اليمين فقد فرض الله لكن تِحَلَّةَ أيمانكم . وقال مجاهد وعطاء : " حرَّم جاريته " ، وكذلك رُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة . وأما قول من قال إنه حرم وحلف أيضاً ، فإن ظاهر الآية لا يدل عليه وإنما فيها التحريم فقط ، فغير جائز أن يُلْحَقَ بالآية ما ليس فيها ، فوجب أن يكون التحريم يميناً لإيجاب الله تعالى فيها كفارة يمين بإطلاق لفظ التحريم .
ومن الناس من يقول : لا فرق بين التحريم واليمين ، لأن اليمين تحريم للمحلوف عليه والتحريم أيضاً يمين ؛ وهذا عند أصحابنا يختلف في وجه ويتفق في وجه آخر ، فالوجه الذي يوافق اليمين فيه التحريم أن الحنث فيهما يوجب كفارة اليمين ، والوجه الذي يختلفان فيه أنه لو حلف أنه لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لم يحنث ، ولو قال : " قد حرّمت هذا الرغيف على نفسي " فأكل منه اليسير حنث ولزمته الكفارة ؛ لأنهم شبَّهوا تحريمه الرغيف على نفسه بمنزلة قوله والله لا أكلتُ من هذا الرغيف شيئاً ، تشبيهاً له بسائر ما حرَّمه الله من الميتة والدم أنه اقتضى تحريم القليل منه والكثير .
واختلف السلف في الرجل يحرّم امرأته ، فرُوي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر : " أن الحرام يمين " ، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وطاوس . ورُوي عن ابن عباس روايةً مِثْلُه ، ورُوي عنه غير ذلك . وعن عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايةً وابن عمر روايةً وأبي هريرة وجماعة من التابعين قالوا : " هي ثلاث " . ورَوَى خَصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام بمنزلة الظهار . ورَوَى منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " النذر والحرام إذا لم يسمَّ مغلظة ، فتكون عليه رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً " . وروى ابن جبير عن ابن عباس أيضاً : " إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفّرها ، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ! " وهذا محمول على أنه إذا لم تكن له نيّة فهو بمنزلة يمين ، وأنه إن أراد الظهار كان ظهاراً .
وقال مسروق : " ما أُبالي إيّاها حرمتُ أو قصعة من ثريد " . وعن أبي سلمة بن عبدالرّحمن : " ما أبالي حرمتُ امرأتي أو ماءً فُراتاً " . قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على أنهم لم يَرَوْهُ يميناً ؛ لأنه لا جائز أن يكون قولهما في تحريم الثريد والماء أنه يمين ، فكأنهما لم يريا ذلك طلاقاً ؛ وكذلك نقول إنه ليس بطلاق إلا أن ينويه ، فلم تظهر مخالفة هذين لمن ذكرنا قولهم من الصحابة واتفاقهم على أن هذا القول ليس بلَغْوٍ وأنه إما أن يكون يميناً أو طلاقاً أو ظهاراً .
واختلف فقهاء الأمصار في الحرام ، فقال أصحابنا : " إن نَوَى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً ، وإن لم يَنْوِ طلاقاً فهو يمين وهو مُولٍ " . وذكر ابن سماعة عن محمد : " أنه إن نوى ظهاراً لم يكن ظهاراً ؛ لأن الظهار أصله بحرف التشبيه " . وروى ابن شجاع عن أبي يوسف في اختلاف زفر وأبي يوسف : " أنه إن نوى ظهاراً كان ظهاراً " . وقال ابن أبي ليلى : " هي ثلاث ولا أسأله عن نيته " . وقال مالك فيما ذَكَرَ عنه ابن القاسم : " الحرامُ لا يكون يميناً في شيء إلا أن يحرّم امرأته فيلزمه الطلاق ، وهو ثلاثٌ ، إلا أن ينوي واحدة أو ثنتين فيكون على ما نَوَى " . وقال الثوري : " إن نوى ثلاثاً فثلاثٌ ، وإن نوى واحدة فواحدةٌ بائنةٌ ، وإن نوى يميناً فهي يمين يكفّرها ، وإن لم يَنْوِ فرقة ولا يميناً فليس بشيء هي كذبةٌ " . وقال الأوزاعي : " هو على ما نَوَى ، وإن لم يَنْوِ شيئاً فهو يمين " . وقال عثمان البتي : " هو بمنزلة الظهار " . وقال الشافعي : " ليس بطلاق حتى ينوي فإذا نَوَى فهو طلاق على ما أراد من عدده ، وإن أراد تحريمها بلا طلاق فعليه كفّارة يمين وليس بمُولٍ " .
قال أبو بكر : قد جعل أصحابُنا التحريم يميناً إذا لم تقارنه نيةُ الطلاق إذا حرّم امرأته ، فيكون بمنزلة قوله لها : " والله لا أقربك " فيكون مُولِياً ، وأما إذا حرّم غير امرأته من المأكول والمشروب وغيرهما فإنه بمنزلة قوله : " والله لا آكل منه ووالله لا أشرب منه " ونحو ذلك ، لقوله تعالى : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ثم قال : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ، فجعل التحريم يميناً ، فصارت اليمين في مضمون لفظ التحريم ومقتضاه في حكم الشرع ، فإذا أطلق كان محمولاً على اليمين إلا أن ينوي غيرها فيكون ما نَوَى ، فإذا حرم امرأته وأراد الطلاق كان طلاقاً لاحتمال اللفظ له ؛ وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فإنه متى أراد به الطلاق كان طلاقاً ، والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لركانة حين طلّق امرأته البتّة : " بالله ما أَرَدْتَ إِلاّ وَاحِدَةً " فتضمن ذلك معنيين ، أحدهما : أن كل لفظ يحتمل الثلاث ويحتمل غيرها فإنه متى أراد الثلاث كان ثلاثاً ، لولا ذلك لم يستحلفه عليها . والثاني : أنه لم يلزمه الثلاث بوجود اللفظ وجعل القول قوله للاحتمال فيه ، فصار ذلك أصلاً في أن كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره أنّا لا نجعله طلاقاً إلا بمقارنة الدلالة لإرادة الطلاق . ومما يدلّ على أن اللفظ المحتمل للطلاق يجوز إيقاع الطلاق به وإن لم يكن طلاقاً في نفسه ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة : " اعْتَدِّي " ثم راجعها فأوقع الطلاق بقوله : " اعتدّي " لاحتمال له ، ولا نعلم أحداً من السلف منه إيقاع الطلاق بلفظ التحريم ، ومن قال منهم هو يمين فإنما أراد به عندنا إذا لم تكن له نية الطلاق ولم تقارنه دلالة الحال . وزعم مالك أنّ من حرم على نفسه شيئاً غير امرأته أنه لا يلزمه بذلك شيء وأن ذلك ليس بيمين ، وقد ذكرنا ما اقتضى قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } من كونه يميناً ، لقوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ، وأنه لا يجوز إسقاط موجب هذا اللفظ من الكون الحرام يميناً برواية من رَوَى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يشرب العسل ، إذْ غير جائز الاعتراض على حكم القرآن بخبر الواحد ؛ ولأن من رَوَى اليمين يجوز أن يكون إنما عَنَى به التحريمَ وحده إذ كان التحريم يميناً . ويدلّ من جهة النظر على أن التحريمَ يمينٌ أن المحرّم للشيء على نفسه قد اقتضى لفظه إيجاب الامتناع منه كالأشياء المحرمة ، وذل في معنى النذر وقول الله : " لله عليَّ أن لا أفعل ذلك " ، فلما كان النذر يميناً بالسنّة واتفاق الفقهاء وجب أن يكون تحريم الشيء بمنزلة النذر فتجب فيه كفارة يمين إذا حنث كما تجب في النذر .