قال الله تعالى : { واتَّقُوا الله الَّذي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ } . قال الحسن ومجاهد وإبراهيم : " هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم " ، وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك : " اتقوا الأرحام أن تقطعوها " . وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى ، وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَألَ باللهِ فَأَعْطُوهُ " . وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ، منها إبرار القسم " ؛ وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم " مَنْ سألكم بالله فأعْطُوه " . وأما قوله : { والأَرْحَامَ } ففيه تعظيم لحقّ الرَّحِمِ وتأكيدٌ للنهي عن قطعها ، قال الله تعالى في موضع آخر : { فهل عسيتم إن توليتم أَن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمد : 22 ] ، فقرن قَطْعَ الرحم إلى الفساد في الأرض ، وقال تعالى : { لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة } [ التوبة :10 ] ، قيل في الإِلّ إنه القرابة ؛ وقال تعالى : { وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى } [ النساء : 36 ] .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمة الرحم ما يواطىء ما ورد به التنزيل ؛ رَوَى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : أَنَا الرَّحْمنُ وهي الرَّحِمُ شَقَقْتُ لها اسْماً مِنِ اسْمي فَمَنْ وَصَلَها وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثني خالي حيان بن بشر قال : حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة قال : حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلُ ثَواباً مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وما مِنْ عَمَلٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنَ البَغْي واليَمِينِ الفَاجِرَةِ " . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا صالح المريّ قال : حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الصَّدَقَةَ وصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ الله بِهِمَا في العُمُرِ ويَدْفَعُ بهما مَيْتَةَ السُّوءِ ويَدْفَعُ الله بهما المَحْذُورَ والمَكْرُوهَ " . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أمّ كلثوم بنت عقبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ على ذِي الرَّحِمِ الكَاشِح " ، قال الحميدي : الكاشح العدو . ورواه أيضاً سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ على ذِي الرَّحِمِ الكَاشِح " . وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصَّدَقَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ صَدَقَةٌ وَعَلى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ لأنَّها صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " .
قال أبو بكر : فثبت بدلالة الكتاب والسنّة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقةً وصِلَةً ، وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة ، فدل على أن الهِبَة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أباً كان الواهب أو غيره ؛ لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها ، كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصحّ الرجوع فيها ، كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ؛ ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وَهَبَهُ للابن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم ، إذْ كانت بمنزلة الصدقة ، إلا أن يكون الأبُ محتاجاً فيجوز له أخذه كسائر أموال الابن .
فإن قيل : لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره ، فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كابن العمّ والأباعد من أرحامه . قيل له : لو اعتبرنا كل من بَيْنَهُ وبَيْنَه نسبٌ لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم ؛ لأنهم ذوو أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام ، وهذا فاسدٌ فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة الأجنبيين ؛ وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال : أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمِنًى وهو يقول : " أُمَّكَ وأَبَاكَ وأُخْتَكَ وأَخَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ " ، فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك ، فدلّ على صحة ما ذكرنا . وهو مأمور مع ذلك بمن بعُدَ رَحِمُهُ أن يَصِلَهُ ، وليس في تأكيد من ضرب كما يؤمر بالإحسان إلى الجار ، ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة ، فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين ؛ والله أعلم بالصواب .