مطلب : في عقود الجاهلية وعقود الإسلام
قوله تعالى : { يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ } رُوي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف والربيع والضحّاك والسدّي وابن جريج والثوري قالوا : " العقود في هذا الموضع أراد بها العهود " . وروى معمر عن قتادة قال : " هي عقود الجاهلية الحلف " . وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا حِلْفَ في الإِسْلامِ وأمّا حِلْفُ الجَاهِلِيَّةِ فلم يَزِدْهُ الإسْلامُ إلاّ شِدَّةً " . وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال : سمعت أنس بن مالك يقول : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا ؛ فقيل له : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلامِ وما كان في الجاهلية فلم يَزِدْهُ الإسلامُ إلاّ شدَّةً " فقال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا . قال ابن عيينة : " إنما آخى بين المهاجرين والأنصار " .
قال أبو بكر : قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أوْلى من الحليف بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين } [ الأنفال : 75 ] ، فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتاً صحيحاً . وأما قوله : " لا حلف في الإسلام " فإنه جائز أن يريد به الحِلْفَ على الوجوه التي كان عليه الحلف في الجاهلية ، وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف . وقد كان حِلْفُ الجاهلية على وجوه : منها الحلف في التناصر ، فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه : " دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك " فيتعاقدان الحلفَ على أن ينصر كل واحد منهما صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ؛ ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه ؛ فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام . وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع ، وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نَشَراً لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف ، فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض ، وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ، ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يُجِيرَ الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم ؛ فجائز أن يكون أراد بقوله : " لا حلف في الإسلام " هذا الضرب من الحلف . وقد كانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين ، فلما أعزّ الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يداً واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [ التوبة : 71 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " المُؤْمِنُونَ يَدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ " ، وقال : " ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عليهنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ : إخْلاصُ العَمَلِ لله ، والنَّصِيحَةُ لوُلاةِ الأمْرِ ، ولُزُومُ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ ، فإنّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ " . فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم : " ولَعَلَّكَ أَنْ تَعِيشَ حَتَّى تَرَى المَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنَ القَادِسِيَّةِ إلى اليَمَنِ بِغَيْرِ جِوَارٍ " ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام " . وأما قوله : " وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة " فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوّز في العقول مستحسن فيها ، نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبدالمطلب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحِبُّ أَنّ لي بحِلْفٍ حَضَرْتُهُ حُمْرَ النَّعَمِ في دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ وأني أغدر به : هَاشِمٌ وزُهْرَةُ وتَيْمٌ تَحَالَفُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَ المَظْلُومِ مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً ، ولو دُعِيتُ إلى مِثْلِهِ في الإِسْلامِ لأَجَبْتُ وهو حِلْفُ الفُضُولِ " . وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسّي في المعاش ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوّة وأنه لو دُعي إلى مثله في الإسلام لأجاب ؛ لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك ، وهو شيءٌ مستحسنٌ في العقول ، بل واجب فيها قبل ورود الشرع ؛ فعلمنا أن قوله : " لا حلف في الإسلام " إنما أراد به الذي لا تُجَوِّزُهُ العقول ولا تُبيحه الشريعة . وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حَضَرْتُ حِلْفَ المُطَيّبِينَ وأنا غُلامٌ ، وما أُحِبُّ أنْ أَنْكُثَهُ وأَنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ " . وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه . وأما قوله : " وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدّة " فهو نحو حلف المطيّبين وحلف الفضول ، وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوّزه الشريعة .
والعَقْدُ في اللغة هو الشَّدُّ ، تقول : عقدتُ الحبل ، إذا شَدَدْتَهُ . واليمينُ على المستقبل تسمى عَقْداً ، قال الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } [ المائدة : 89 ] ؛ والحلف يسمَّى عقداً ، قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } [ النساء : 33 ] . وقال أبو عبيدة في قوله : { أوْفُوا بالعُقُودِ } قال : " هي العهود والأيمان " . ورُوي عن جابر في قوله : { أوْفُوا بالعُقُودِ } قال : " هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد " ، وزاد زيد بن أسلم من قِبَلِهِ : " وعقد الشركة وعقد اليمين " . وروى وَكِيعٌ عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبدالله بن عبيدة قال : " العقود ستة : عقد الأيمان ، وعقد النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة الشِّرَى والبيع ، وعقدة الحلف " .
وقال أبو بكر : العَقْدُ ما يعقده العاقد على أمْرٍ يفعله هو أن يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه ؛ لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشدّ ثم نُقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها ، فإنما أُريد به إلزامُ الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه ، وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظراً مراعًى في المستقبل من الأوقات ، فيسمَّى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقوداً لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به ، وسُمّي اليمينُ على المستقبل عَقْداً لأن الحالف قد أَلْزَمَ نفسه الوفاء بما حلف عليه من فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، والشركةُ والمضاربةُ ونحوها تسمَّى أيضاً عقوداً لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شَرَطَهُ على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه ، وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها ، وكذلك كل شَرْطٍ شَرَطَهُ إنسانٌ على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عَقْدٌ ، وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك . وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل يُنتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماضٍ قد وقع فإنه لا يسمَّى عقداً ، ألا ترى أن من طلّق امرأته فإنه لا يسمَّى طلاقُهُ عَقْداً ؟ ولو قال لها : " إذا دخلت الدار فأنت طالق " كان ذلك عقداً ليمين ؟ ولو قال : " والله لقد دخلت الدار أمس " لم يكن عاقداً لشيء ؟ ولو قال : " لأدخلنها غداً " كان عاقداً ؟ ويدلُّكَ على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصحّ في المستقبل لو قال : " عليَّ أن أدخل الدار أمس " كان لغواً من الكلام مستحيلاً ، ولو قال : " عليّ أن أدخلها غداً " كان إيجاباً مفعولاً .
فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل ، واليمين على المستقبل إنما كانت عقداً لأن الحالف قد أكّد على نفسه أن يفعل ما حَلَفَ عليه بذلك ، وذلك معدوم في الماضي ؛ ألا ترى أن من قال : " والله لأكلمنّ زيداً " فهو مؤكدٌ على نفسه بذلك كلامه ؟ وكذلك لو قال : " والله لا كلمتُ زيداً " كان مؤكداً به نفي كلامه ملزماً نفسه به ما حلف عليه من نَفْي أو إثبات ؛ فسُمّي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقداً تشبيهاً بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به ، ومن أجله كان النذر عقداً ويميناً لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه . ومتى صُرِفَ الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقداً كما لا يكون ذلك إيجاباً وإلزاماً ونذراً ، وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام .
ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي ، أن ضد العقْد هو الحَلُّ ، ومعلوم أن ما قد وقع لا يُتوهم له حَلٌّ عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه ؛ فلما لم يكن الحَلُّ ضدّاً لما وقع في الماضي عُلم أنه ليس بعَقْدٍ لأنه لو كان عقداً لكان له ضدٌّ من الحلِّ يوصف به كالعقد على المستقبل .
مطلب : شرط انعقاد البرّ إمكان البرِّ إمكاناً عقليّاً
فإن قيل : قوله : " إن دخلت الدار فأنت طالق " و " أَنت طالق إذا جاء غد " هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ . قيل له : جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحلّ ، ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال : " إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حرّ " وليس في الكوز ماء ، إن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقداً ؛ لأنه ليس له نقيض من الحل ، ولو قال : " إن لم أصعد السماء فعبدي حرّ " حنث بعد انعقاد يمينه ؛ لأن لهذا العقد نقيضاً من الحلِّ ، وإن كنا قد علمنا أنه لا يَبَرُّ فيه ؛ لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول ، إذ كان صعود السماء معنى متوهماً معقولاً ، وكذلك تركه معقول جائز ، وشربُ ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقداً .
وقد اشتمل قوله تعالى : { يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ } على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس ، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان ؛ وهو نظير قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } [ النحل : 91 ] وقوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه . وقد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَوْفُوا بِالعُقُودِ } أي بعقود الله فيما حرم وحلل ؛ وعن الحسن قال : " يعني عقود الدين " . واقتضى أيضاً الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود ، فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صحّ الاحتجاج بقوله تعالى : { أَوْفُوا بِالعُقُودِ } لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها . ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار ؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء منها . وقوله صلى الله عليه وسلم : " والمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " في معنى قول الله تعالى : { أوْفُوا بالعُقُودِ } وهو عمومٌ في إيجاب الوفاء بجميع ما يَشْرُطُ الإنسان على نفسه ما لم تَقُمْ دلالة تخصّصه .
مطلب : النذر على ثلاثة أنحاء
فإن قيل : هل يجب على كل من عقد على نفسه يميناً أو نذراً أو شرطاً لغيره الوفاءُ بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه ؟ قيل له : أما النذور فهي على ثلاثة أنحاء : منها نذر قربة ، فيصير واجباً بنذره بعد أن كان فِعْلُهُ قربةً غير واجب ، لقوله تعالى : { أَوْفُوا بالعُقُودِ } ، وقوله تعالى : { أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } [ النحل : 91 ] وقوله تعالى : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] ، وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف : 3 ] ، وقوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } [ التوبة : 75 و 76 ] فذمّهم على تَرْكِ الوفاء بالمنذور نفسه ؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : " أَوْفِ بنَذْرِكَ " حين نذر أن يعتكف يوماً في الجاهلية ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ نَذَرَ نَذْراً سَمّاهُ فَعَلَيْهِ أن يفي به ، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ولم يُسَمّهِ فعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ " ؛ فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء به بعينه . وقسم آخر : وهو ما كان مباحاً غير قربة ، فمتى نَذَرَهُ لا يصير واجباً ولا يلزمه فِعْلُهُ ، فإذا أراد به يميناً فعليه كفارةُ يمين إذا لم يفعله ، مثل قوله : " لله عليّ أن أكلم زيداً وأدخل هذه الدار وأمشي إلى السوق " فهذه أمور مباحةٌ لا تلزم بالنذر ، لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب ، كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجباً بالنذر ؛ فإن أراد به اليمين كان يميناً وعليه الكفارة إذا حنث . والقسم الثالث : نذر المعصية ، نحو أن يقول : " لله عليّ أن أقتل فلاناً أو أشرب الخمر أو أغصب فلاناً ماله " ، فهذه أمور هي معاصٍ لله تعالى لا يجوز له الإقدامُ عليها لأجل النذر وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر ، وهذا يدلّ على ما ذكرنا في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذر ، كما أن ما كان محظوراً لا يصير مباحاً ولا واجباً بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يميناً وحَنَثَ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نَذْرَ في مَعْصِيَةِ الله " وكفارتُه كفارة يمينٍ ، فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء .
وأما الأيمان فإنها تُعقد على هذه الأمور من قربة أو مباحٍ أَوْ معصية ، فإذا عقدها على قربة لم تَصِرْ واجبةً باليمين ، ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يَفِ به وَحَنَثَ لزمَتْهُ الكفارةُ ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمر : " بَلَغَنِي أنّكَ قُلْتَ والله لأَصُومَنَّ الدَّهْرَ ؟ " فقال : نعم ، قال : " فلا تَفْعَلْ وَلَكِنْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " فقال : إني أطيق أكثر من ذلك ؛ إلى أن ردّه إلى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً ، فلم يلزمه صوم الدهر باليمين ؛ فدلّ ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ؛ ولذلك قال أصحابنا فيمن قال : " والله لأصومن غداً " ثم لم يصمه : فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين . والقسم الآخر من الأيمان : هو أن يحلف على مُبَاحٍ أن يفعله فلا يلزمه فِعْلُهُ كما لا يلزمه فِعْلُ القُرْبَةِ المحلوف عليها ، فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك ، فإن حنث لَزِمَتْهُ الكفّارةُ . والقسم الثالث : أن يحلف على معصية ، فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويُكَفِّرَ عنها ، لقوله : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَها خَيْراً مِنْها فَلْيَأْتِ الّذِي هُوَ خَيْرٌ ولْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " ، وقال : " إني لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَها خَيْراً مِنْها إلاّ فَعَلْتُ الّذي هُوَ خَيْرٌ وكَفَّرْتُ عَنْ يَمِيني " ؛ وقال الله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم } [ النور : 22 ] ، رُوي أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مِسْطَحِ بن أثاثة لما كان منه من الخَوْضِ في أمر عائشة رضي الله عنها ، فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الإنفاق عليه .
قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } قيل في الأنعام إنها الإبل والبقر والغنم ، وقال بعضهم : الإطلاقُ يتناول الإبل وإن كانت منفردة ، وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإِبل ، ولا تتناولهما منفردة عن الإبل ؛ وقد رُوي عن الحسن القول الأول . وقيل : إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر ، لأنه أخذ من نعومة الوَطْءِ ؛ ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } . ويدل على أن الحافرَ غيرُ داخلٍ في الأنعام قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } [ النحل : 5 ] ثم عطف عليه قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } [ النحل : 8 ] فلما استأنف ذكرها وعَطَفَها على الأنعام دلّ على أنها ليست منها . وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة : " إنها بهيمة الأنعام " ، وهو كذلك ؛ لأن البقرة من الأنعام . وإنما قال : { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } وإن كانت الأنعام كلها من البهائم ؛ لأنه بمنزلة قوله : " أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام " فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي ، كما تقول : نفس الإنسان .
مطلب : كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل
ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودةٌ بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية ؛ وليس كذلك ، لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطاً للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ، ولكنه وجّه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله تعالى : { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُودِ } . ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم ، بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفاراً كانوا أو مؤمنين ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } [ الأحزاب : 49 ] وهو حُكْمٌ عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصّاً بخطاب المؤمنين . وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباحٌ لسائر المكلفين ، كما أن كل ما أوجبه وفَرَضَهُ فهو فَرْضٌ على جميع المكلفين إلاّ أن يَخُصَّ بَعْضَهُم دليلٌ ؛ وكذلك قلنا : إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان .
فإن قيل : إذا كان ذبح البهائم محظوراً إلا بعد ورود السمع به ، فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حَظْرِهِ عليه باقٍ على الأصل ، وقائل هذا القول يقول إنّ ذَبْحَ البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها ، وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحاً لنا . وزعم هذا القائل أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح . وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ؛ لأنه لو كان أهل الكتاب عصاةً بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاةٍ ، مثل المجوسي لما كان ممنوعاً من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاةً ، وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاصٍ في ذبح البهائم وأنه مباح له كَهُوَ لنا . وأما قوله : " إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه " فليس كذلك ؛ لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم . وأيضاً فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته ؛ لأن رجلاً لو ترك التسمية على الذبيحة عامداً لكان عندنا عاصياً بذلك ؛ وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ، ولم يكن كون الذابح عاصياً مانعاً صحة ذكاته .
قوله عز وجل : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } رُوي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي : { إلا ما يتلى عليكم } : " يعني قوله : حُرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما حُرِّم في القرآن " . وقال آخرون : " إلا ما يُتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حُرُمٌ " . فكأنه قال على هذا التأويل : إلا ما يلتى عليكم في نسق هذا الخطاب . قال أبو بكر : يحتمل قوله : { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } مما قد حصل تحريمه ، على نحو ما رُوي عن ابن عباس ؛ فإذا أُريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملاً لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم ، فيكون قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } عموماً في إباحة جميعها إلاّ ما خصّه الآيُ التي فيها تحريم ما حرم منها ، وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ } . ويحتمل أن يريد بقوله : { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } : إلا ما يَبِينُ حرمته ؛ فيكون مؤذناً بتحريم بعضها علينا في وقت ثان ، فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضاً . ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرَّمٌ عليكم الآي تحريماً يَرِدُ بيانه في الثاني ، فهذا يوجب إجمال قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } لاستثنائه بعضها ، فهو مجهول المعنى عندنا ، فيكون اللفظ مشتملاً على إباحةٍ وحظرٍ على وجه الإجمال ، ويكون حكمه موقوفاً على البيان . وأوْلى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمالٌ لما وصفنا من الإجمال والعموم حَمْلُه على معنى العموم لإمكان استعماله ، فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها . فإن قيل : قوله تعالى : { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } يقتضي تلاوةً مستقبلة لا تلاوةً ماضية ، وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تُلي علينا فوجب حمله على تلاوة تَرِدُ في الثاني . قيل له : يجوز أن يريد به ما قد تُلي علينا ويُتْلى في الثاني ؛ لأن تلاوة القرآن غير مقصورةٍ على حالٍ ماضيةٍ دون مستقبَلَةٍ ، بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي ، فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل ؛ وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانةً عن بقاء حكم المحرَّمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ، ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوْجَبَ ذلك نَسْخَ التحريم وإباحة الجميع منها .
قوله تعالى : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . قال أبو بكر : فمن الناس من يحمله على معنى : إلا ما يُتْلَى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم ؛ فيكون المستثنى بقوله : { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } هو الصيد الذي حرّمه على المُحْرِمِينَ . وهذا تأويل يؤدّي إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني ، وهو قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } ويجعله بمنزلة قوله : إلا ما يُتْلى عليكم ، وهو تحريم الصيد على المحرم ؛ وذلك تعسّفٌ في التأويل . ويوجب ذلك أيضاً أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصوراً على الصيد ، وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة ؛ فهذا تأويل لا وجه له . ثم لا يخلو من أن يكون قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مستثنىً مما يليه من الاستثناء ، فيصير بمنزلة قوله : إلا ما يُتْلَى عليكم إلا محلّي الصيد وأنتم حرم ؛ ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجباً لإباحة الصيد في الإحرام ، لأنه استثناء من المحظور ، إذ كان مثل قوله : { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } سوى الصيد مما قد بيّن وسيبين تحريمه في الثاني ، أو أن يكون معناه : أوفوا بالعقود غير محلّي الصيد وأُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتْلَى عليكم .