قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } رُوي عن السلف فيه وجوهٌ ، فرُوي عن ابن عباس : " أن الشعائر مناسك الحج " . وقال مجاهد : " الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر " . وقال عطاء : " فرائض الله التي حدّها لعباده " . وقال الحسن : " دين الله كله لقوله تعالى : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [ الحج : 32 ] أي : دين الله " . وقيل : إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة . وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية . والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ، ومنها مَشَاعِرِ البَدَنِ وهي الحواسّ . والمشاعر أيضاً هي المواضع التي قد أُشعرت بالعلامات ؛ وتقول : قد شعرتُ به ، أي علمته ؛ وقال تعالى : { لا يشعرون } [ البقرة : 12 ] يعني : لا يعلمون . ومنه الشّاعِرُ لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره . وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شَعِيرَةٌ ، وهي العلامة التي يُشْعَرُ بها الشيء ويُعْلَمُ ؛ فقوله تعالى : { لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله } قد انتظم جميع معالم دين الله ، وهو ما أعْلَمَنَاهُ الله تعالى وحَدَّهُ من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها ، فينتظم ذلك جميع المعاني التي رُويت عن السلف من تأويلها ؛ فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرماً ، وحظر استحلاله بالقتال فيه ، وحظر قتل من لجأ إليه ، ويدل أيضاً على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما رُوي عن مجاهد ؛ لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام ، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم بهما ، فثبت أنهما من شعائر الله .
وقوله عز وجل : { وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ } ، رُوي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه ؛ قال الله تعالى في سورة البقرة : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } [ البقرة : 217 ] وقد بينا أنه منسوخ ، وذكرنا قول من رُوي عنه ذلك وأن قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] نسخه . وقال عطاء : " حكمه ثابت ، والقتال في الشهر الحرام محظور " . وقد اختلف في المراد بقوله : { وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ } فقال قتادة : " معناه الأشهر الحرم " . وقال عكرمة : " هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب " . وجائز أن يكون المراد بقوله : { ولا الشَّهْرَ الحَرَامَ } هذه الأشهر كلها ، وجائز أن يكون الذي يقتضيه اللفظ واحداً منها . وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ ، إذْ كان جميعها في حكم واحد منها ، فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع .
قوله تعالى : { وَلا الهَدْيَ وَلا القَلاَئِدَ } أما الهَدْيُ فإنه يقع على كل ما يُتقرب به من الذبائح والصدقات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المُبْكِرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً ، ثم الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَقَرَةً ، ثم الّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي شَاةً ، ثم الّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي دَجَاجَةً ، ثم الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَيْضَةً " ، فسمَّى الدجاجة والبيضة هدياً ، وأراد به الصدقة . وكذلك قال أصحابنا فيمن قال : " ثوبي هذا هَدْيٌ " أن عليه أن يتصدق به . إلاّ أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه ، قال الله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } [ البقرة : 196 ] ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة ؛ وقال تعالى : { من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، وقال : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } [ البقرة : 196 ] وأقلّه شاة عند جميع الفقهاء ؛ فاسم الهدي إذا أُطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم .
وقوله : { وَلاَ الهَدْيَ } أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جُعل للذبح في الحرم ، وإحلالُهُ استباحته لغير ما سِيقَ إليه من القربة ؛ وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هَدْياً من جهة نَذْرٍ أو غيره . وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذراً كان أو واجباً من إحصار أو جزاء صيد . وظاهره يمنع جواز الأكل مِنْ هدي المتعة والقرآن لشمول الاسم له ، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه .
وأما قوله عز وجل : { وَلا القَلاَئِدَ } فإن معناه : لا تحلّوا القلائد . وقد رُوي في تأويل القلائد وجوه عن السلف ، فقال ابن عباس : " أراد الهدي المقلَّد " . قال أبو بكر : هذا يدلّ على أن من الهدي ما يُقلَّد ومنه ما لا يُقلَّد ، والذي يُقَلَّد الإبل والبقر ، والذي لا يقلَّد الغنم ، فحظر تعالى إحلال الهدي مقلَّداً وغير مقلّد . وقال مجاهد : " كانوا إذا أحرموا يقلّدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم ، فكان ذلك أمناً لهم ، فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه ؛ وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا " . ورُوي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم . وقال بعض أهل العلم : " أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها " . ورُوي عن الحسن أنه قال : " يقلَّد الهَدْيُ بالنعال ، فإذا لم توجد فالجِفَافُ تُقَوَّرُ ثم تُجعل في أعناقها ثم يُتصدق بها " . وقيل : هو صوف يُفتل فيجعل في أعناق الهَدي .
قال أبو بكر : قد دلّت الآية على أن تقليد الهدي قربة ، وأنه يتعلق به حكم كونه هدياً ؛ وذلك بأن يقلّده ويريد أن يهديه فيصير هدياً بذلك وإن لم يوجبه بالقول ، فمتى وُجد على هذه الصفة فقد صار هدياً لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به . وقد دل أيضاً على أن قلائد الهدي يجب أن يُتصدق بها لاحتمال اللفظ لها ، وكذلك رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في البُدْنِ التي نَحَرَ بعضها بمكة وأمر عليّاً بنحر بعضها ، وقال له : " تَصَدَّقْ بِجِلاَلِهَا وخُطُمِهَا ولا تُعْطِ الجَزَّارَ مِنْهَا شيئاً فإنّا نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا " . وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهَدْي ولا حَلْبُهُ ولا الانتفاع بلبنه ؛ لأن قوله : { وَلا الهَدْيَ وَلا القَلاَئِدَ } قد تضمن ذلك كله . وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها ، وهو قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحُرُمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلّقها بالشهر الحرام وبالكعبة لما ضمّها إليهما عند الإخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم . وروى الحكم عن مجاهد قال : لم تُنسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } [ المائدة :2 ] نسختها : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ؛ { فإن جاؤوك فاحكم بينهم } [ المائدة : 42 ] الآية نسختها : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] . قال أبو بكر : يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونَسْخَ القلائد التي كانوا يقلِّدون بها أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ، ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بعدهم .
وروى مالك بن مِغْوَلٍ عن عطاء في قوله تعالى : { وَلاَ القَلاَئِدَ } قال : كانوا يقلّدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا ، فنزلت : { لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله } قال أبو بكر : يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية ؛ لأن الناس كانوا مُقَرِّين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل ، إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلّد بلحاء شجر الحرم ، ثم نسخ ذلك مِنْ قِبَلِ أنّ الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام ، وأما المشركون فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخاً ، والمسلمون قد استغنوا عن ذلك ، فلم يبق له حكم ، وبقي حكم قلائد الهدي ثابتاً .
وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال : لم تُنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية : { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } . وحدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ } الآية ، قال : منسوخٌ ؛ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السَّمُرِ فلم يَعْرُضْ له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يُصدُّ عن البيت ، فأُمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسختها قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] . وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } [ المائدة : 97 ] : حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية ، وكان الرجل إذا لقي قَاتِلَ أبيه في الشهر الحرام لم يَعْرُضْ له ولم يَقْرَبْهُ ، وكان الرجل لو جَرَّ كل جَرِيَرَةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب ، وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلَّداً وهو يأكل العَصَبَ من الجوع لم يَعْرُضْ له ولم يَقْرَبْهُ ، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلّد قلادة من شَعَرٍ تمنعه من الناس ، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرم فمَنَعَتِ الناس عنه . وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد الله قال : حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله تعالى : { يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ ولا الهَدْيَ وَلاَ القَلاَئِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ } قال : كان المسلمون والمشركون يحجّون البيت جميعاً ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحداً أن يحجّ البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] ، وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } [ التوبة : 17 ] . وقد رَوَى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال : سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء ؟ فقال : لا . وهذا يدل على أن قوله تعالى : { وَلا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ } إنما أُريد به المؤمنون عند الحسن ، لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] . وقوله أيضاً : { ولا الشَّهْرَ الحَرَامَ } حَظْرُ القتال فيه منسوخ بما قَدَّمْنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتاً على نحو ما رُوي عن عطاء .
قوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } رُوي عن ابن عمر أنه قال : أُريدَ به الربح في التجارة ، وهو نحو قوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } [ البقرة : 198 ] . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج ، فأنزل الله تعالى ذلك ؛ وقد ذكرناه فيما تقدم . وقال مجاهد في قوله تعالى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } : " الأجر والتجارة " .
قوله تعالى : { وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } . قال مجاهد وعطاء في آخرين : " هو تعليم ، إن شاء صاد وإن شاء لم يصد " . قال أبو بكر : هو إطلاقٌ من حَظْرٍ بمنزلة قوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 9 ] لما حظر البيع بقوله : { وذروا البيع } [ الجمعة : 9 ] عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله : { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 9 ] .
وقوله تعالى : { وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } قد تضمن إحراماً متقدماً ؛ لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام ، وهذا يدل على أن قوله : { وَلا الهَدْيَ ولا القَلاَئِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ } قد اقتضى كون من فعل ذلك محرماً ، فيدلّ على أن سَوْقَ الهدي وتقليده يوجب الإحرام . ويدل قوله : { وَلا آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ } على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام ، إذْ كان قوله : { وإذَا حَلَلْتُمْ فًاصْطَادُوا } قد تضمن أن يكون مَنْ أَمَّ البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده . وقوله : { وإذَا حَلَلْتُمْ فًاصْطَادُوا } قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضاً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله : " ولا يُنَقَّرُ صَيْدُها " ، ولا خلاف بين السلف والخلف فيه ، فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعاً . وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق ، وأن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع الاصطياد ، لقوله تعالى : { وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وهذا قد حل ، إذْ كان هذا الحلق واقعاً للإحلال .
قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } قال ابن عباس وقتادة : " لا يجرمنكم : لا يحملنكم " . وقال أهل اللغة : يقال جرمني زيد على بغضك أي حملني عليه . وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرمت على أهلي أي كسبت لهم ، وفلان جريمة أهله أي كاسبهم ؛ قال الشاعر :
* جَريمَةُ نَاهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ * تَرَى لِعِظَامٍ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا *
ويقال : جَرَمَ يَجْرُمُ جَرْماً ، إذا قطع .
وقوله تعالى : { شَنَآنُ قَوْمٍ } قرىء بفتح النون وسكونها ، فمن فتح النون جعله مصدراً من قولك : " شَنِئْتُه أشْنَأُهُ شَنَآناً " ، والشنآن البغض ، فكأنه قال ولا يجرمنكم بُغْضُ قوم ؛ وكذلك رُوي عن ابن عباس وقتادة قالا : " عداوة قوم " . ومن قرأ بسكون النون فمعناه بَغِيضُ قَوْمٍ ، فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحقَّ إلى الظلم والتعدِّي ، لأجل تعدِّي الكفار بصدّهم المسلمين عن المسجد الحرام ؛ ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أدِّ الأمَانَةَ إِلى مَنِ ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ " .
وقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى } يقتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان طاعة لله تعالى ، لأن البِرَّ هو طاعات الله . وقوله تعالى : { وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالعُدْوَانِ } نَهْيٌ عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى .