قال الله تعالى : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ } . قال أبو بكر : البراءة هي قَطْعُ الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان . وقيل : إن معناه : هذه براءة من الله ورسوله ؛ ولذلك ارتفع . وقيل : هو ابتداء وخبره الظرف في " إلى " ، فاقتضى قوله عز وجل : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ } نَقْضَ العهذ الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ورفع الأمان وإعلامَ نصب الحرب والقتال بينه وبينهم ، وهو على نحو قوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } [ الأنفال : 58 ] ، فكان ما ذكر في هذه الآية من البراءة نَبْذاً إليهم ورَفْعاً للعهد . وقيل : إن ذلك كان خاصّاً فيمن أضمروا الخيانة وهَمُّوا بالعذر . وكان حكم هذا اللفظ أن يرفع العهد في حال ذكر ذلك لهم ، إلا أنه لما عقبه بقوله تعالى : { فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } بيَّن به أن هذه البراءة وهذا النبذ إليهم إنما هي بعد أربعة أشهر ، وأن عهد ذوي العهد من هذا القبيل منهم باقٍ إلى آخر هذه المدة ؛ قال الحسن : " فمن كان منهم عَهْدُهُ أكثر من أربعة أشهر حُطَّ إليها ، ومن كان منهم عهده أقلّ رُفِع إليها " . وقيل : إن هذه الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد أوّلها من عشرين من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرةُ أيام من شهر ربيع الأول ؛ لأن الحج في تلك السنة التي حجَّ فيها أبو بكر وقرأ فيها عليّ بن أبي طالب سورة براءة على الناس بمكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذي القعدة ، ثم صار الحج في السنة الثانية وهي السنة التي حَجَّ فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة وهو الوقت الذي وقَّته الله تعالى للحج ؛ لأن المشركين كانوا ينسأون الشهور ، فاتفق عَوْدُ الحج في السنة التي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الذي فرضه الله تعالى فيه بديّاً على إبراهيم وأمره فيه بدعاء الناس إليه بقوله : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً } ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات : " ألاَ إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ " ، فثبت الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة والنحر اليوم العاشر منه ؛ فهذا قول من يقول إن الأربعة الأشهر التي جعلها للسياحة وقطع بمضيّها عصمة المشركين وعهدهم .
وقد قيل في جواز نقض العهد قبل مضيّ مدته على جهة النبذ إليهم وإعلامهم نصب الحرب وزوال الأمان وجوه ، أحدها : أن يخاف غدرهم وخيانتهم ، والآخر : أن يثبت غدرهم سرّاً فينبذ إليهم ظاهراً ، والآخر : أن يكون في شرط العهد أن يُقِرَّهم على الأمان ما يشاء وينقضه متى يشاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر : " أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ الله " ، والآخر : أن العهد المشروط إلى مدة معلومة فيه ثبوت الأمان من حربهم وقتالهم من غير علمهم وأن لا يقصدوا وهم غارون وأنه متى أعلمهم رفع الأمان من حربهم فذلك جائز لهم ، وذلك معلوم في مضمون العهد ، وسواء خاف غدرهم أو لم يَخَفْ أو كان في شرط العهد أن لنا نقضه متى شئنا أو لم يكن فإن لما متى رأينا ذلك حظّاً للإسلام أن ننبذ إليهم وليس ذلك بغدر منّا ولا خيانة ولا خفر للعهد ؛ لأن خفر الأمان والعهد أن يأتيهم بعد الأمان وهم غارون بأماننا ، فأما متى نبذنا إليهم فقد زال الأمان وعادوا حرباً ، ولا يحتاج إلى رضاهم في نبذ الأمان إليهم ؛ ولذلك قال أصحابنا إن للإمام أن يهادن العدوّ إذا لم تكن بالمسلمين قوة على قتالهم ، فإن قَوِيَ المسلمون وأطاقوا قتالهم كان له أن ينبذ إليهم ويقاتلهم ، وكذلك كل ما كان فيه صلاح للمسلمين فللإمام أن يفعله ، وليس جواز رفع الأمان موقوفاً على خوف الغدر والخيانة من قبلهم .
وقد رُوي عن ابن عباس أن هذه الأربعة الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة إلى آخر المحرم . وقد كانت سورة براءة نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحجّ ، وكان الحجُّ في تلك السنة في ذي القعدة ؛ فكأنهم على هذا القول إنما بقي عهدهم إلى آخر الأربعة الأشهر التي هي أشهر الحرم . وقد رَوَى جريرٌ عن مغيرة عن الشعبي عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال : " كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى المشركين ، فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، وكان أَمَرَنا أن نقول : لا يحجَّنَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريءٌ من المشركين ورسولَهُ " . وجائز أن تكون هذه الأربعة الأشهر من وقت ندائه وإعلامهم إياه ، وجائز أن يريد بها تمام أربعة أشهر من الأشهر الحرم . وقد روى سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيِّع عن عليّ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه يوم الحج الأكبر أن لا يطوف أحد بالبيت عرياناً ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يحجَّ مشرك بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته " ؛ فجعل في حديث عليّ من له عهد عهده إلى أجله ولم يخصص أربعة أشهر من غيره ، وقال في حديث أبي هريرة : فعهده إلى أربعة أشهر . وجائز أن يكون المعنيان صحيحين ، وأن يكون جعل أجل بعضهم أربعة أشهر أو تمام أربعة أشهر التي هي أشهر الحرم ، وجعل أَجَلَ بعضهم إلى مدته طالت المدة أو قصرت . وذِكْرُ الأربعة الأشهر في حديث أبي هريرة موافق لقوله تعالى : { فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ، وذِكْرُ إثبات المدة التي أجلها في حديث عليّ موافق لقوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ } ، فكان أجَلُ بعضهم وهم الذين خِيفَ غدرهم وخيانتهم أربعة أشهر ، وأجل من لم يخش غدرهم إلى مدته .
وقد رَوَى يونس عن أبي إسحاق قال : بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحجّ في سنة تسع ، فخرج أبو بكر ونزلت براءة في نَقْضِ ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين من العهد والذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يُصَدَّ عن البيت أَحَدٌ ولا يخاف أحدٌ في الشهر الحرام ، وكان ذلك عهداً عامّاً بينه وبين أهل الشرك ، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة ، فنزلت : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ } ، أهل العهد العامّ من أهل الشرك من العرب ، { فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } إن الله بريءٌ من المشركين بعد هذه الحجة . وقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ } يعني : العهد الخاصّ إلى الأجل المسمَّى ، { فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ } يعني الأربعة التي ضربه لهم أجلاً . وقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ } من قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ؛ فلم يكن نقضها إلا هذا الحيّ من قريش وبنو الدئل ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد لمن لم يكن نقضه من بني بكر إلى مدته ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } .
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } قال : " جعل الله للذين عاهدوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤوا وأجّل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم خمسين ليلة ، وأمره إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهدوا ولم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمّى لهم من العهد والميثاق " .
قال أبو بكر : جعل ابن عباس في هذا الحديث الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد لمن كان له منهم عهد ؛ ولم يكن له منهم عهد جعل أجله انسلاخ المحرم وهو تمام خمسين ليلة من وقت الحج ، وهو العشر من ذي الحجة ، وذلك آخر وقت أشهر الحرم .
وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ } : إلى أهل العهد من خزاعة ومدلج ومن كان له عهد من غيرهم ، قال : ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليّاً فآذنوا أصحاب العهود أن يأمنوا أربعة أشهر ، وهي الأشهر الحرم المتواليات من عشر من ذي الحجة إلى عشر يخلو من شهر ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ؛ قال : وهي الحرم من أجل أنهم آمنوا فيها .
قال أبو بكر : فجعل مجاهد الأشهر الحرم في أشهر العهد ، وذهب إلى أنها إنما سُمّيت بذلك لتحريم القتال فيها ، وليست هي الأشهر التي قال الله فيها : { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ، وقال : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [ البقرة : 217 ] ؛ لأنه لا خلاف أن هذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم . والذي قاله مجاهد في ذلك محتمل .