قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إلى آخر الآيتين ؛ فيه الدلالة على أن من نذر نذراً فيه قربة لزمه الوفاء ؛ لأن العهد هو النذر والإيجاب نحو قوله : إن رزقني الله ألف درهم فعليَّ أن أتصدق منها بخمسمائة ، ونحو ذلك . فانتظمت هذه الآية أحكاماً ، منها : أن من نذر نذراً لزمه الوفاء بنفس المنذور لقوله تعالى : { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ } ، فعنّفهم على تَرْكِ الوفاء بالمنذور بعينه ؛ وهذا يدلّ على بطلان قول من أوجب في شيء بعينه كفارة يمين وأبطل إيجاب إخراج المنذور بعينه ؛ ويدل أيضاً على جواز تعليق النذر بشرط مثل أن يقول : إن قدم فلان فللّه عليَّ صدقة أو صيام ؛ ويدل أيضاً على أن النذر المضاف إلى الملك إيجاب في الملك وإن لم يكن الملك موجوداً في الحال ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا نَذْرَ فيما لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ " ، وجعله الله تعالى نذراً في الملك وألزمه الوفاء به ، فثبت بذلك أن النذر في غير ملك أن يقول : لله عليَّ أن أتصدق بثوب زيد ، أو نحوه ؛ وهو يدل على أن من قال لأجنبية : إن تزوجتك فأنت طالق ، أنه مطلق في نكاح لا قبل النكاح ، كما كان المضيف للنذر إلى الملك ناذراً في الملك . ونظير ذلك في إيجاب نفس المنذور على موجبه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف :2 و 3 ] ، فاقتضى ذلك فعل المقول بعينه ، وإخراجُ كفارة يمين ليس هو المقول بعينه ؛ ونحوه قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } [ النحل : 91 ] والوفاءُ بالعهد إنما هو فعل المعهود بعينه لا غير ، وقوله : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] ، وقوله : { يوفون بالنذر } [ الحديد : 27 ] ، فمدحهم على فعل المنذور بعينه . ومن نظائره قوله تعالى : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } [ الحديد : 27 ] ، والابتداعُ قد يكون بالقول وبالفعل ، فاقتضى ذلك إيجابَ كل ما ابتدعه الإنسان من قربة قولاً أو فعلاً لذمّ الله تعالى تارك ما ابتدع من القربة . وقد رُوي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في النذر ، وهو قوله : " مَنْ نَذَرَ نَذْراً وسَمّاهُ فَعَلَيْهِ الوَفَاءُ بِهِ ومَنْ نَذَرَ نَذْراً ولم يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ " .