قوله تعالى : { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } فيه نهيٌ للزوج عن إخراجها ونهيٌ لها عن الخروج ، وفيه دليل على وجوب السُّكْنَى لها ما دامت في العدة لأن بيوتهن التي نَهَى الله عن إخراجها منها هي البيوت التي كانت تسكنها قبل الطلاق ، فأمر بتبقيتها في بيتها ونَسَبَها إليها بالسكنى كما قال : { وَقَرْنَ في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] ، وإنما البيوت كانت للنبي صلى الله عليه وسلم . ولهذه الآية قال أصحابنا : " لا يجوز له أن يسافر بها حتى يُشْهِدَ على رجعتها " ومنعوها من السفر في العدة . قال أبو بكر : ولا خلاف نعلمه بين أهل العلم في أن على الزوج إسكانها ونفقتها في الطلاق الرجعيّ وأنه غير جائز له إخراجها من بيتها .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } رُوي عن ابن عمر قال : " خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة " ، وقال ابن عباس : " إلا أن تَبْذُوَ على أهله فإذا فعلت ذلك حَلَّ لهم أن يخرجوها " . وقال الضحاك : " الفاحشة المُبَيِّنَةُ عصيان الزوج " . وقال الحسن وزيد بن أسلم : " أن تزني فتُخرج للحدّ " .
وقال قتادة : " إلا أن تَنْشُزَ فإذا فعلت حلَّ إخراجها " . قال أبو بكر : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون جميعها مراداً فيكون خروجها فاحشة وإذا زنت أخرجت للحدّ وإذا بَذَتْ على أهله أُخرجت أيضاً ؛ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها ، فأما عصيان الزوج والنشوز فإن كان في البَذَاءِ وسوء الخلق اللذين يتعذر المقام معها فيه فجائز أن يكون مراداً ، وإن كانت إنما عصت زوجها في شيء غير ذلك فإن ذلك ليس بعذر في إخراجها . وما ذكرنا من التأويل المراد يدلّ على جواز انتقالها للعذر لأنه تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا .
قوله تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } يدل على أنه إذا طلّق لغير السنّة وقع طلاقه وكان ظالماً لنفسه بتعدية حدود الله ؛ لأنه ذكر ذلك عقيب طلاق العدة فأبان أن من طَلَّقَ لغير العدة فطلاقه واقع ، لأنه لو لم يقع طلاقه لم يكن ظالماً لنفسه . ويدل على أنه أراد وقوع طلاقه مع ظلمه لنفسه قولُه تعالى عقيبه : { لا تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } يعني أن يحدث له نَدمٌ فلا ينفعه لأنه قد طلق ثلاثاً . وهو يدل أيضاً على بطلان قول الشافعي في أن إيقاع الثلاث في كلمة واحدة من السنَّة ؛ لأن الله جعله ظالماً لنفسه حين طلق ثلاثاً ، وترك اعتبار ما عسى أن يلحقه من الندم بإبانتها ؛ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر بطلاقه إيّاها في الحيض وأمره بمراجعتها ، لأن الطلاق الأوّل كان خطأً فأمره بالرجعة ليقطع أسباب الخطأ ويبتدئه على السنة .
وزعم قوم أن الطلاق في حال الحَيْضِ لا يقع ، وقد بَيَّنّا بطلان هذا القول في سورة البقرة من جهة الكتاب والسنّة ، وسؤال يونس بن جبير لابن عمر عن الطلاق في الحيض وذِكْره لأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالمراجعة قال : قلت : فيعتد بها ؟ قال : " فَمَهْ ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجِزَ واسْتَحْمَقَ ؟ " . فإن احتجَّ محتجٌّ بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبدالرّحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّ عَبْدَ الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ؛ فقال عبدالله : فردَّها عليَّ ولم يَرَها شيئاً وقال : " إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَو لِيُمْسِكْ " قال ابن عمر : فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن " . فقال المحتجُّ : فأخبر أنه ردها عليه ولم يرها شيئاً ، وذلك يدل على أن الطلاق لم يقع . فيقال له : ليس فيما ذكرت دليل على أنه لم يحكم بالطلاق ، بل دلالته ظاهرة على وقوعه ، لأنه قال : " وردَّها عليَّ " وهو يعني الرجعة ، وقوله : " ولم يرها شيئاً " يعني أنه لم يُبِنْها منه . وقد رُوي حديث ابن عمر عنه عن أنس بن سيرين وابن جبير وزيد بن أسلم ومنصور عن أبي وائل عنه ، كلهم يقول فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر .
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . قال أبو بكر : يحتمل تخصيص النبي بالخطاب وجوهاً ، أحدها : اكتفاء بعلم المخاطبين بأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لهم ، إذ كانوا مأمورين بالاقتداء به إلا ما خُصَّ به دونهم ، فخصّه بالذكر ثم عدل بالخطاب إلى الجماعة إذْ كان خطابه خطاباً للجماعة . والثاني : أن تقديره : يا أيها النبي قل لأمّتك إذا طلقتم النساء . والثالث : على العادة في خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الأتباع ، كقوله تعالى : { إلى فرعون وملئه } [ الأعراف : 103 ] .
وقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ؛ قال أبو بكر : رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته في الحيض ، فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلْيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ثُمَّ تَحِيضُ حَيْضَةً أُخْرَى فإِذا طَهُرَتْ فَلْيُفَارِقْها قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَها أَوْ يُمْسِكُها ، فإنّها العِدَّةُ الّتي أَمَرَ الله أَنْ تُطَلَّقَ لها النِّسَاءُ " ، رواه نافع عن ابن عمر . وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ابن عمر يقول : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : " فطلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ " قال : " طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ " . ورَوَى وكيع عن سفيان عن محمد بن عبدالرحمن مولى أبي طلحة عن سالم عن ابن عمر : أنه طلق امرأته في الحيض ، فذكر ذلك عُمَرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثمَّ يُطَلِّقها وهي حَامِلٌ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ " وفي لفظ آخر : " فَلْيُطَلِّقْها طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلاً قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُها " . قال أبو بكر : بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله في قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وأن وقت الطلاق المأمور به أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها ، وبيّن أيضاً أن السنّة في الإيقاع من وجه آخر وهو أن يفصل بين التطليقتين بحيضة بقوله : " يُراجِعُها ثم يَدَعُها حتى تَطْهُرَ ثم تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثم تَطْهُرَ ثم يُطَلِّقُها إِن شَاء " فدلّ ذلك على أن الجمع بين التطليقتين في طُهْرٍ واحد ليس من السنّة ، وما نعلم أحداً أباح طلاقها في الطهر بعد الجماع إلا شيئاً رواه وكيع عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال : " إذا طلقها وهي طاهر فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها " ، وهذا القول خلاف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف إجماع الأمّة ؛ إلا أنه قد رُوي عنه ما يدل على أنه أراد الحامل ، وهو ما رواه يحيى بن آدم عن الحسن بن صالح عن بيان عن الشعبي قال : " إذا طلقها حاملاً فقد طلقها للسنة وإن كان قد جامعها " ، فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث وأغفل بعض الرواة ذكر الحامل .
وقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } منتظم للواحدة وللثلاث مفرقة في الأطهار ؛ لأن إدخال " اللام " يقتضي ذلك ، كقوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] قد انتظم فعلها مكرراً عند الدلوك ، فدلّ ذلك على معنيين ، أحدهما : إباحة الثلاث مفرقة في الأطهار وإبطال قول من قال : " إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة ليس من السنّة " وهو مذهب مالك والأوزاعي والحسن بن صالح والليث . والثاني : تفريقها في الأطهار وحَظْر جمعها في طهر واحد ؛ لأن قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } يقتضي ذلك لا فعل الجميع في طهر واحد ، كقوله تعالى : { لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] لم يَقْتَضِ فِعْلَ صلاتين في وقت واحد وإنما اقتضى فعل الصلاة مكررة في الأوقات . وقول أصحابنا : إن طلاق السنة من وجهين ، أحدهما : في الوقت ، وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع أو حاملاً قد استبان حملها ؛ والآخر : من جهة العدد ، وهو أن لا يزيد في الطهر الواحد على تطليقة واحدة . والوقت مشروط لمن يطلق في العدة ؛ لأن من لا عدة عليها بأن كان طلقها قبل الدخول فطلاقها مباح في الحيض لقوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [ البقرة : 236 ] ، فأباح طلاقها في كل حال من طُهْرٍ أو حَيْضٍ ، وقد بيّنا بطلان قول من قال إن جمع الثلاث في طهر واحد من السنة ومن منع إيقاع الثلاث في الأطهار المتفرقة في سورة البقرة .
فإن قيل : لما جاز طلاق الحامل بعد الجماع كذلك الحائل يجوز طلاقها في الطهر بعد الجماع . قيل له : لا حَظَّ للنظر مع الأثر واتفاق السلف ، ومع ذلك فإن الفرق بينهما واضح وهو أنه إذا طهرت من حيضتها ثم جامعها لا ندري لعلها قد حملت من الوطء وعسى أن لا يريد طلاقها إن كانت حاملاً فيلحقه الندم ، وإذا لم يجامعها بعد الطهر فإن وجود الحيض عَلَمٌ لبراءة الرحم فيطلقها وهو على بصيرة من طلاقها .
قوله تعالى : { وَأَحْصُوا العِدَّةَ } يعني والله أعلم العدَّةَ التي أوجبها الله بقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وبقوله : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] إلى قوله : { واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] لأن جميع ذلك عدد للمطلقات على حسب اختلاف الأحوال المذكورة لهنّ ؛ فيكون إحصاؤها لمعانٍ ، أحدها : لما يريد من رجْعة وإمساك أو تسريح وفراق . والثاني : مراعاة حالها في بقائها على الحال التي طلقت عليها من غير حدوث حال يوجب انتقال عدتها إليها . والثالث : لكي إذا بانَتْ يُشْهِدَ على فراقها ويتزوج من النساء غيرها ممن لم يكن يجوز له جمعها إليه ولئلا يخرجها من بيتها قبل انقضائها . وذكر بعض من صنّف في أحكام القرآن أن أبا حنيفة وأصحابه يقولون : " إن طلاق السنة واحدة ، وأن من طلاق السنة أيضاً إذا أراد أن يطلقها ثلاثاً طلّقها عند كل طهر تطليقة ؛ فذكروا أن الأوّل هو السنّة والثاني أيضاً سُنَّة ؛ فكيف يكون شيء وخلافه سنة ! ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حراماً حلالاً ، ولو قال : إن الثاني رخصة كان أشبه " . قال أبو بكر : وهذا كلام من لا تَعَلُّقَ له بمعرفة أصول العبادات وما يجوز وروده منها مما لا يجوز ، ولا يمنع أحد من أهل العلم جواز ورود العبادة بمثله ، إذ جائز أن يكون السنة في الطلاق أن يُخَيَّرَ بين إيقاع الواحدة في طهر والاقتصار عليها وبين أن يطلّق بعدها في الطهر الثاني والثالث ، وجميع ذلك مندوب إليه ، ويكون مع ذلك أحد الوجهين أحسن من الآخر كما قال تعالى : { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن } [ النور : 60 ] ، ثم قال : { وأن يستعففن خير لهن } [ النور : 60 ] ؛ وخيّر الله الحانث في يمينه بين أحد أشياء ثلاثة وأيها فعل كان فرضه . وقوله : " ولو جاز ذلك لجاز أن يكون حلالاً حراماً " يوجب نفي التخيير في شيء من السنن والفروض كما امتنع أن يكون شيءٌ واحد حراماً حلالاً ؛ وعوار هذا القول وفساده أظْهَرُ من أن يحتاج إلى الإطناب في الردّ على قائله . ورُوي نحو قولنا بعينه عن ابن مسعود وجماعة من التابعين .