التّفسير
ثمانية أحكام في آية واحدة:
لقد بيّنت هذه الآية عدداً من الأحكام الإِلهية الإِسلامية المهمة ،وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ،وهي على الوجه التالي:
1الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ،ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ،كما تقول الآية الكريمة: ( يا أيّها الذين آمنوا لا تحلُّوا شعائر الله ...) واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر » الواردة هنا ،وبالنظر إلى الأجزاء الأُخرى من هذه الآية ،وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع ،يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها ،ويؤكّد هذا الرأي مجيء كلمة «الشّعائر » في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائماً{[961]} .
2دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ،كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ،حيث قالت: ( ولا الشهر الحرام ...) .
3حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج ،سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى ب «الهدي »{[962]} أو تلك الخالية من العاملات والتي تسمّى ب «القلائد »{[963]} أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ،فقالت الآية: ( ولا الهدي ولا القلائد ...) .
4أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ،الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ،ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ،أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافاً أُخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ،فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ،فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة: ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربّهم ورضواناً ...) .
يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين ،أي المشركين أيضاً إِن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين .
ولكن نظراً لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة ،ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريم( صلى الله عليه وآله وسلم ) أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على أيّ من الأحكام الواردة فيهابحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنةلذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحاً ،والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم .
5لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإِحرام فقط ،وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإِحرام إِيذان بجواز الصيد للمسلمينحيث تقول الآية الكريمة: ( وإِذا حللتم فاصطادوا ) .
6منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إِسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ،وكان هذا في واقعة الحديبية ،فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإِسلام لهم ديناً ،تقول الآية الكريمة: ( ولا يجرمنّكم شنئان قوم إِن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ){[964]} .
ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام ،لكنهفيالحقيقةيعد حكماً عاماً ،وقانوناً كلياً يدعو المسلمين إلى نبذ «الحقد » وعدم إِحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها .
ولمّا كانت خصلة الحقد إِحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنامنذ ذلكجلياً أهمية هذا الحكم الإِسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم .
7تؤكّد الآيةجرياً على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إِكمالهعلى أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلمواوأصبحوا بحكم إِسلامهم أصدقاءعليهم جميعاً أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى ،وأن لا يتعاونوافي سبيل الشر والعدوان تقول الآية: ( وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان ...) .
8ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ،محذره من عذاب الله الشديد ،فتقول: ( واتقوا الله إِنّ الله شديد العقاب ) .
التعاون في أعمال الخير:
إِنّ الدعوة إلى التعاون التي تؤكّد عليها الآية الكريمة تعتبر مبدأ إِسلامياً عاماً ،تدخل في إِطاره جميع المجالات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والحقوقية وغيرها ،وقد أوجبت هذه الدعوة على المسلمين التعاون في أعمال الخير ،كما منعتهم ونهتهم عن التعاون في أعمال الشرّ والإِثم اللّذين يدخل إِطارهما الظلم والاستبداد والجور بكل أصنافها .
ويأتي هذا المبدأ الإِسلامي تماماً على نقيض مبدأ ساد في العصر الجاهلي ،وما زال يطبق حتى في عصرنا الحاضر ،وهو المبدأ القائل: «اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » ،وكان في العصر الجاهلي إِذا غزت جماعة من إِحدى القبائل جماعة من قبيلة أُخرى ،هب أفراد القبيلة الغازية لموازرة الغازين بغض النظر عمّا إِذا كان الغزو لغرض عادل أو ظالم ،ونرى في وقتنا الحاضرأيضاًآثار هذا المبدأ الجاهلي في العلاقات الدولية ،وبالذات لدى الدول المتحالفة حين تهب في الغالب لحماية بعضها البعض ،والتضامن والتعاون معاً حيال القضايا الدولية دون رعاية لمبدأ العدالة ودون تمييز بين الظالم والمظلوم: لقد ألغى الإِسلام هذا المبدأ الجاهلي ،ودعى المسلمين إلى التعاون في أعمال الخير والمشاريع النافعة والبناءة فقط ،ونهى عن التعاون في الظلم والعدوان .
والطريق في هذا المجال هو مجيء كلمتي «البر » و«التقوى » معاً وعلى التوالي في الآية ،حيث أنّ الكلمة الأولى تحمل طابعاً إِيجابياً وتشير إلى الأعمال النافعة ،والثانية لها طابع النهي والمنع وتشير إلى الامتناع عن الأعمال المنكرةوعلى هذا الأساسأيضاًفإِن التعاون والتآزر يجب أن يتمّ سواء في الدّعوة إلى عمل الخير ،أو في مكافحة الأعمال المنكرة .
وقد استخدم الفقه الإِسلامي هذا القانون في القضايا الحقوقية ،حيث حرّم قسماً من المعاملات والعقود التجارية التي فيها طابع الإِعانة على المعاصي أو المنكرات ،كبيع الأعناب إلى مصانع الخمور أو بيع السلاح إلى أعداء الإِسلام وأعداء الحق والعدالة ،أو تأجير محل للاكتساب لتمارس فيه المعاملات غير الشرعية والأعمال المنكرة ( وبديهي أن لهذه الأحكام شروطاً تناولتها كتب الفقه الإِسلامي بالتوضيح ) .
إِنّ إحياء هذا المبدأ لدى المجتمعات الإِسلامية ،وتعاون المسلمين في أعمال الخير والمشاريع النافعة البناءة دون الاهتمام بالعلاقات الشخصية والعرقية والنسبية ،والامتناع عن تقديم أي نوع من التعاون إلى الأفراد الذين يمارسون الظلم والعدوان ،بغض النظر عن تبعية أو انتمائية الفئة الظالمة ،كل ذلك من شأنه أن يزيل الكثير من النواقص الاجتماعية .
أمّا في العلاقات الدولية ،فلو امتنعت دول العالم عن التعاون مع كل دولة معتديةأيّاً كانتلقضي بذلك على جذور العدوان والاستعمار والاستغلال في العالم ،ولكن حين ينقلب الوضع فتتعاون الدول مع المعتدين والظالمين بحجّة أنّ مصالحهم الدولية تقتضي ذلك ،فلا يمكن توقع الخير أبداً من وضع كالذي يسود العالم اليوم .
لقد تناولت الأحاديث والروايات الإِسلامية هذه القضية بتأكيد كبير ،ونوردهنابعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر .
1نقل عن النّبي محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا المجال قوله: «إِذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برىء لهم قلما ولاق لهم دواة ؟قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم »{[965]} .
2نقل عن صفوان الجمال ،وهو أحد أنصار الإِمام السابع موسى بن جعفر الكاظم( عليه السلام ) ،بأنّه تشرف بلقاء الإِمام( عليه السلام ) فقال له الكاظم( عليه السلام ): يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً .
قلت: جعلت فداك ،أي شيء ؟
قال: اكراؤك جمالك من هذا الرجل ،يعني هارون .
قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته لهذا الطريقيعني طريق مكّةولا أتولاّه بنفسي ،ولكن أبعث معه غلماني .
فقال لي: يا صفوان ،أيقع كراؤك عليهم ؟
قلت: نعم .
قال: من أحب بقاءهم فهو منهم ،ومن كان منهم كان ورد النار ...إلى آخر الحديث{[966]} .
وفي حديث عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاطب به عليّاً( عليه السلام ) قائلا:
«يا علي كفر بالله العلي العظيم من هذه الأُمّة عشرة ...وبائع السلاح لأهل الحرب »{[967]} .