{ يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} أي لا تجعلوا شعائر دين الله حلالا تتصرفون بها كما تشاءون ، وهي معالمه التي جعلها أمارات تعلمون بها الهدى من الضلال ، كمناسك الحج وسائر فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه ، بل اعملوا فيها بما بينه لكم ،{ ولا الشهر الحرام}:ولا تحلوا الشهر الحرام باستئنافكم قتال المشركين فيه ، قيل المراد به هنا ذو القعدة وقيل رجب ، والمتبادر أن المراد به جنس الشهر الحرام فيدخل فيه بقية الأربعة الحرم وهي ذو الحجة والمحرم ..وراجع تفسير قوله تعالى ؛{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} [ البقرة:217] في الجزء الثاني من التفسير لتقف على تتمة هذه المسألة .
{ ولا الهدى ولا القلائد} ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله من الأنعام للتوسعة على من هناك من عاكف وباد تقربا إليه تعالى .وإحلاله يكون بمنع بلوغه إلى محله من بيت الله كأخذه لذبحه غضبا أو سرقة أو حبسه عند من أخذه ، ولا تحلوا القلائد التي يقلد بها هذا الهدي بنزع القلادة من عنق البعير لئلا يتعرض لها أحد بجهله .وقيل المراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي كأنه قال لا تحلوا الهدي مقلدا ولا غير مقلد ، وخص المقلد بالذكر لأنه أكرم الهدي وأشرفه ، ويؤخذ من الكشاف أنهم ما كانوا يقلدون إلا البدن ( الإبل ) وقيل الهدي هو ما يقلد ، وهذا كما قالوا في{ ولا يبدين زينتهن} [ النور:31] لا يبدين مواضع زينتهن ، وقد يدخل في عمومه من يتقلد من الناس ليعرف أنه محرم ، وكان من يريد الحج في الجاهلية من يرجع منه يتقلد من لحاء شجره ليأمن على نفسه فلا يعرض له أحد ، فأقر الله تأمين المقلد لتعلم العرب أن المتقلد لأجل النسك كان في جوار المسلمين وحمايتهم وبهذا فسر بعضهم الآية .
وقيل إن المراد هنا المنع من أخذ شيء من شجر الحرم لأجل التقلد به عند العودة من أرض الحرم لأن هذا من استحلال قطع شجر الحرم أو التحائه أي أخذ قشر شجره ، والظاهر أن المراد بالنهي تحريم التعرض للقلائد نفسها بإزالتها والتعرض للمقلد بها من الهدي لأن كل ذلك يعد من إحلال القلائد حقيقة ، فلا حاجة إلى القول بأن النهي عن إحلال القلائد يدل على النهي عن إحلال ذوات القلائد بالأولى ، وهذا هو المتبادر عندي ، وأما من يقصد الحرم للنسك أو غير النسك فقد حرم التعرض لهم بقوله:{ ولا آمين البيت الحرام} أي ولا تحلوا ، قال آمين البيت الحرام أي قاصديه المتوجهين إليه ، يقال أمه ويممه وتيممه إذا توجه إليه وعمده وقصد إليه مستقيما لا يلوي إلى غيره .والبيت الحرام هو بيت الله المعروف بمكة المكرمة الذي حرمه وما حوله أي منع أن يصاد صيده وأن يقطع شجره وأن يختلى خلاه – أي يؤخذ نباته وحشيشه – وجعله آمنا لا يروع من دخله ( راجع{ من دخله كان آمنا} [ آل عمران:97] في أول الجزء الرابع ) .
{ ويبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} أي يطلبون بأمهم البيت وقصده التجارة والحج معا .أو ربحا في التجارة ورضاء من الله يحول بينهم وبين عقوبته في الدنيا فلا يحل بهم ما حل بغيرهم في عاجل دنياهم ، وبهذا فسره ابن جرير ورواه عن أهل الأثر بناء على أن المراد بالكلام هنا المشركون .فروي عن قتادة أنه قال هم المشركون يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دنياهم .وفي رواية أخرى عنه:والفضل والرضوان الذي يبتغون:أن يصلح لهم معايشهم في الدنيا وأن لا يعجل لهم العقوبة فيها .وروي عن مجاهد أنه قال:يبتغون الأجر والتجارة .وعن ابن عمر أنه قال في الرجل يحج ويحمل معه متاعا ( لا بأس به ) وتلا الآية .ولم يرو فيها عن ابن عباس إلا أنه قال:( يترضون ربهم بحجهم ) وروى عبد بن حميد عن الربيع بن أنس أنه فسر الفضل من ربهم بالتجارة والرضوان بالحج نفسه .ولهذا قال قتادة ومجاهد وغيرهما أن هذه العبارة من الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة براءة:{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [ التوبة:5] وقال بعضهم إنها نسخت بقوله تعالى في المشركين{ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [ التوبة:28] وقال أبو مسلم المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر اه أي لم ينسخ الحكم ولكن زال الوصف الذي نيط به ، وقال بعض المفسرين:إن الآية في المسلمين ، فهي محكمة وحكمها باق فلم تنسخ ولم ينته حكمها .ومن فسر القلائد بمن كان يتقلد من المشركين قال إن النهي عن إحلالها منسوخ أيضا .وقد روي أن هذه السورة من آخر القرآن نزولا وإنه ليس فيها شيء منسوخ .
أما ما رواه أهل المأثور في سبب نزول الآية وكونها في المشركين فهو- كما روى جرير عن السد – أن الحطم بن هند البكري أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده وخلف خيله خارجة من المدينة فدعاه فقال إلى من تدعو ؟ فأخبره ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان ، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال انظر ولعلي أسلم ولي من أشاوره .فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ) فمر بسرح من سرح المدينة فساقه ...ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزلت الآية حتى بلغ ( لا آمين البيت الحرام ) فقال له ناس من أصحابه يا رسول الله خل بيننا وبينه فإنه صاحبنا .قال ( إنه قد قلد ) قالوا:إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأبي عليهم فنزلت هذه الآية .
وروي عن ابن جريج عن عكرمة أن الحطم قدم المدينة في عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم .فلما ولى خارجا نظر إليه فقال لمن عنده ( لقد دخل علي بوجه فاجر وولى بقفا غادر ) فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة ، فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه في عيره فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) فانتهى القوم .
( ثم قال ابن جرير ) قال ابن جريج:قوله ( لا آمين البيت الحرام ) قال ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم ( قال ) وذلك أن الحطم قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر فقال إني داعية قوم فاعرض علي ما تقول .قال له ( أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشكرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت ) قال الحطم:إن في أمرك هذا غلظة ، فأرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت فإن قبلوا أقبلت معهم وإن أدبروا كنت معهم .قال له ( ارجع ) فلما خرج قال ( لقد دخل علي بوجه كافر ، وخرج من عندي بعقبى غادر ، وما الرجل بمسلم ) ففاتهم وقدم اليمامة وحضر الحج فجهز خارجا وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه .فأنزل الله عز وجل ( لا تحلوا شعائر الله ) الخ وأنت ترى هذه الروايات متعارضة وسواء صحت أو لم تصح فالآية على إطلاقها وعمومها ، والمفيد من مثل هذه الروايات معرفة أحوال أهل ذلك العصر ، فإنها تعين على الفهم .
{ وإذا حللتم فاصطادوا} أي وإذا خرجتم من إحرامكم بالحج أو العمرة ومن أرض الحرم فاصطادوا إن شئتم فإنما حرم عليكم الصيد في أرض الحرم وفي حال الإحرام فقط ، فهذا تصريح بمفهوم قوله في الآية السابقة ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) والأصل في الأمر بالشيء يجيء بعد حظره أن يكون للإباحة أي رفع ذلك الحظر كقوله تعالى:{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [ الجمعة:10] – أي بالبيع والكسب – الذي جاء بقوله:{ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [ الجمعة:9] ومنه حديث ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ){[643]} رواه ابن ماجه ، وله شاهد في صحيح مسلم من غير تعليل .وما كان الأصل فيه الإباحة قد يجب أو يندب أو يحظر لعارض يقتضي ذلك .
{ ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} قرأ ابن عامر وأبو بكر بن عاصم وإسماعيل عن نافع شنآن بسكون الأولى والباقون بفتحها وهما لغتان ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( إن صدوكم ) بكسر إن على أنها شرطية والباقون بفتحها على أنها للتعليل .وهذه القراءة تشير إلى صد المشركين المؤمنين عن العمرة عام الحديبية وتنهاهم أن يعتدوا عليهم عام حجة الوداع الذي نزلت فيه السورة لأجل اعتدائهم السابق ، والمعنى عليه ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على أن تعتدوا عليهم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام .ومعنى القراءة الأخرى أنه لا يباح للمسلمين أن يعتدوا على أعدائهم إن صدوكم عن المسجد الحرام أي النسك فيه وزيارته ولو للتجارة .واستشكل بأن هذا قد نزل بعد فتح مكة ولم يكن يتوقع صد أحد وبأنه معارض لقوله:{ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [ البقرة:191] وأجيب بأن الشرط على معنى الماضي بتقدير الكون أي إن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام ، ويمكن أن يقال إن ورود هذا بعد فتح مكة وظهور الإسلام على الشرك وأهله لا إشكال فيه لأن الأحكام قد تبنى على الفرض ، ولأن هذا الصد قد يقع من المسلمين بعضهم لبعض كما يفعله بعض أمراء مكة في عصرنا من منع بعض العرب – كأهل نجد – من الحج لأسباب دنيوية – كأخذ بعض أمراء نجد الزكاة من بعض القبائل الذين يعدهم أمراء مكة تابعين لهم .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ( فاصطادوا ) داخلة في حيز شرطه ويكون المعنى:أن الصيد الذي كان محرما عليكم حال كونكم حرما يحل لكم إذا حللتم وأما الاعتداء على من تبغضونهم فلا يباح لكم وأنتم حل ، كما أنه لا يباح لكم وأنتم حرم ، وإن كانوا صدوكم عن المسجد الحرام من قبل .وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام ، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرا لنفسه لا للحق ، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عنه حدود العدل ، ولم أر من نبه على هذا ولا من حرر هذا المبحث ، ولكن أجاز بعضهم أن يكون هذا من توجيه النهي إلى المسبب وإرادة السبب ، كقوله ( لا أرينك ها هنا ) فالمراد النهي عن البغض والعداوة وجعلها حاكمة على النفس ، حاملة لها على الاعتداء والبغي ، ولا ينفي هذا أن يكون لكل نوع من أنواع الاعتداء كالصد عن المسجد الحرام جزاء خاص يعرف بدليله .
ولما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون قفى على النهي عن الاعتداء بقوله{ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} ( البر ) التوسع في فعل الخير ، قاله الراغب ، وسيأتي تحقيقه ( والتقوى ) اتقاء كل ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه فعلا أو تركا ، ( والإثم ) فسره الراغب بأنه كالآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ( العدوان ) تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة والخروج عن العدل فيها .وفي الحديث ( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ){[644]} رواه مسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان ( رض ) أنه قال أتيت رسول الله صلى عليه وسلم فقال ( جئت تسأل عن البر ) وفي رواية ( جئت تسأل عن البر والإثم ) قلت نعم – وكان قد جاء لأجل ذلك فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما في نفسه وأجابه عنه – فقال ( استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك ){[645]} وليس هذا التفسير للبر والإثم بالمعنى الشرعي ولا اللغوي وإنما هو بيان لما يطلبه السائل من الفرقان بين ما يشتبه من البر والإثم فيشك الإنسان هل هو منهما أم لا ، فأحاله صلى الله عليه وسلم في ذلك على ضميره ووجدانه وأشده إلى الأخذ بالاحتياط الذي تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وإن خالف فتوى الذين يراعون الظاهر دون دقائق الاحتياط الخفية .كان صلى الله عليه وسلم يجيب كل سائل بحسب حالته .
كان الصحابة وسائر العرب يفهمون معنى البر وإنما كان القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم يبينان لهم خصال البر وأعماله وآياته ، وما قد يغلطون في عده منه ، ولذلك قال الله تعالى:{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى} [ البقرة:189] وكانوا في الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج ويعدون هذا من النسك والبر .وقال تعالى:{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين ، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن سبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [ البقرة:177] فهذه بيان لأهم أركان البر من الدين:الإيمان والعبادات البدنية والمالية والأخلاق .وقال تعالى:{ وتناجوا بالبر والتقوى} [ المجادلة:9] .
فمجموع ما ورد في البر مصداق لما فسره به الراغب من أنه التوسع في فعل الخير إذا أريد به ما يشمل الأفعال النفسية والأخلاق الحسنة باعتبار ما ينشأ عنها من الأعمال .وقد قال إنه مشتق من البر بالفتح – الذي هو مقابل البحر- بتصور سعته .وإلا قلنا إن البر اسم لمجموع ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والآداب والأعمال ، وكل واحد منها يعد خصلة أو شعبة من البر .
أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا أقواما في دينهم ودنياهم ، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم ، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية ، ولكنه قدم التحلية بالبر وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير ، وعلى العدوان الذي يغري الناس بعضهم ببعض ، ويجعلهم أعداء متباغضين يتربص بعضهم الدوائر ببعض .
كان المسلمون في الصدر الأول جماعة واحدة يتعاونون على البر والتقوى عن غير ارتباط بعهد ونظام بشري كما هو شأن الجمعيات اليوم ، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره ، وقد شهد الله تعالى لهم بقوله:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [ آل عمران:110] ولما انتثر بأيدي الخلف ذلك العقد ، ونكث ذلك العهد ، صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصة بنظام خاص لأجل جمع طوائف من المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب ( التعاون على البر والتقوى ) في أي ركن من أركانه أو عمل من أعماله وقلما ترى أحدا في هذا العصر ، يعينك على عمل من البر ، ما لم يكن مرتبطا معك في جمعية ألفت لعمل معين ، بل لا يفي لك بهذا كل من يعاهدك على الوفاء ، فهل ترجو أن يعينك على غير ما عاهدك عليه ؟ فالذي يظهر أن تأليف الجمعيات في هذا العصر ، مما يتوقف عليه امتثال هذا الأمر وإقامة هذا الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما قال العلماء ، فلا بد لنا من تأليف الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية ، إذا كنا نريد أن نحيى حياة عزيزة ، فعلى آل الغيرة والنجدة من المسلمين أن يعنوا بها كل العناية ، وإن رأوا كتب التفسير لم تعن بتفسير هذه الآية ، ولم تبين لهم أنها داعية لهم إلى أقوم الطرق وأقصدها لإصلاح شأنهم في أمر دينهم ودنياهم .اللهم إنك تعلم أننا عانينا بتأليف جماعة يراد بها إقامة جميع ما تحب من البر والتقوى ، وإصلاح أمر المسلمين في الدين والدنيا ، ( وهي جماعة الدعوة والإرشاد ) اللهم أيد من أيدها ، وأعن المعاونين على عملهم ، واخذ من ثبط عنها ، إنك انت العزيز القدير ، القوي القاهر ، العليم بما في السرائر .
{ واتقوا الله إن الله شديد العقاب} أي اتقوا الله أيها المؤمنين بالسير على سننه التي بيناها لكم في كتابه وفي نظام خلقه ، لئلا تستحقوا عقابه الذي يصيب من أعرض عن هدايته ، إن الله شديد العقاب لمن لم يثق باتباع شرعه ، ومراعاة سننه في خلقه ، لا هوادة ولا محاباة في عقابه ، لأنه لم يأمر بشيء إلا وفعله نافع وتركه ضار ، ولم ينه عن شيء إلا وفعله ضار وتركه نافع .وفي معنى المأمور به كل ما رغب فيه ، وفي معنى المنهي عنه كل ما رغب عنه ، فلهذا كان ترك هدايته مفضيا بطبعه إلى الحرمان من المنافع والوقوع في المضار ، التي منها فساد الفطرة وعمى البصيرة ، وذلك إبسال للنفس يظهر أثره في الدنيا وسوء عاقبته في الآخرة .وكذلك عدم مراعاة سنن الله تعالى في خلق الإنسان وسجاياه وتأثير عقائده وأخلاقه في أعماله ، وسننه في ارتقاء الإنسان في أفراده وشعوبه ، كل ذلك يوقع الإنسان في الغاوية ، وينتهي به إلى شر عاقبة وغاية ، وإنما يظلم الإنسان نفسه ولا عتب له إلا عليها .
والعقاب هنا يشمل عقاب الدنيا والآخرة كما أشرنا إليه ، وقد ورد في بعض الآيات تصريح بالجمع بينهما ، وفي بعضها التصريح بأحدهما كقوله في عذاب الأمم في الدنيا{ وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد} [ هود:102] .
ووضع اسم الجلالة المظهر في قوله:{ إن الله شديد العقاب} – والمقام مقام إضمار – لما لذكر الاسم الكريم من روعة وتأثير ، وذلك أدعى إلى حصول المقصود من الوعظ والتذكير .