قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ } الآية . المَيْتَةُ ما فارقته الروح بغير تذكية مما شُرط علينا الذكاة في إباحته . وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح ، لقوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } [ الأنعام : 145 ] وقد بينا ذلك في سورة البقرة . والدليل أيضاً على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاقُ المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " ، يعني بالدمين الكبد والطحال ؛ فأباحهما وهما دمان ، إذ ليسا بمسفوح ، فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء .
فإن قيل : لما حصر المباح منه بعدد دلّ على حظر ما عداه . قيل : هذا غلط ؛ لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ، ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق ، فدلّ على أن حصره الدَّمَيْنِ بالعدد وتخصيصهما بالذكر لَمْ يَقْتَضِ حَظْرَ جميع ما عداهما من الدماء . وأيضاً فإنه لما قال : { أو دماً مسفوحاً } [ الأنعام : 145 ] ثم قال : { وَالدَّمُ } كانت الألف واللام للمعهود ، وهو الدم المخصوص بالصفة ، وهو أن يكون مسفوحاً ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم : " أُحلت لي ميتتان ودمان " إنما ورد مؤكداً لمقتضى قوله عز وجل : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } [ الأنعام : 145 ] إذ ليسا بمسفوحين ؛ ولو لم يرد لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين .
وقوله تعالى : { وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ } فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه ، ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم اللحم يتناوله ؟ ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك ، وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه ؛ وأيضاً إن تحريم الخنزير لما كان مُبْهَماً اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم ، وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم .
وأما قوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سُمّي عليه غير الله ؛ لأن الإهلال هو إظهارُ الذكر والتسمية ، وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يُولد ، ومنه إهلال المحرم ؛ فينتظم ذلك تحريم ما سُمّي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله ، وينتظم أيضاً تحريمَ ما سُمِّي عليه اسم غير الله أي اسم كان ، فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح : " باسم زيد أو عمرو " أن يكون غير مُذَكَّى ، وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجباً تحريمها ؛ وذلك لأن أحداً لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة وبين ترك التسمية رأساً .
قوله تعالى : { والمُنْخَنِقَةُ } فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ، ومن نحوه حديث عِبَاية بن رفاعة عن رافع بن خديج ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذَكُّوا بكلِّ شَيءٍ إلاّ السِّنَّ والظُّفُرَ " " وهذا عندنا على السنّ والظفر غير المنزوعين ، لأنه يصير في معنى المخنوق .
وأما قوله تعالى : { وَالمَوْقُوذَةُ } فإنه رُوي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت ، يقال فيه : وَقَذَهُ يَقِذُهُ وَقْذاً وهو وَقِيذٌ . إذا ضربه حتى يُشْفي على الهلاك . ويدخل في الموقوذة كل ما قُتل منها على غير وجه الذكاة ، وقد رَوَى أبو عامر العَقَدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة : " تلك الموقوذة " . ورَوَى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن المغفل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الخَذْفِ وقال : " إِنّها لا تَنْكَأُ العَدُوَّ ولا تَصِيدُ الصَّيْدَ ولكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وتَفْقَأُ العَيْنَ " . ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله أرمي بالمعراض فأصيب أفآكل ؟ قال : " إذا رَمَيْتَ بالمِعْرَاضِ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَأَصَابَ فَخَرَقَ فَكُلْ ، وإنْ أَصَابَ بعَرْضِهِ فلا تَأْكُلْ " . حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا عبدالله بن أحمد قال : حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض ، فقال : " ما أَصَابَ بِحَدِّهِ فَخَرَقَ فَكُلْ ، وما أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فإنّه وَقِيذٌ فلا تَأْكُلْ " ، فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذةً وإن لم يكن مقدوراً عل ذكاته ، وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدوراً على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه ؛ وعموم قوله : { وَالمَوْقُوذَةُ } عامٌّ في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال : حدثنا معاوية بن عمر قال : حدثنا زائدة قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زرّ بن حبيش قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : " يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا ، وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ، ولكن ليذكَّ لكم الأسَلُ الرّماحُ والنبلُ " .
وأما قوله تعالى : { وَالمُتَرَدِّيَةُ } فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا : " هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت " . وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : " إذا رميت صيداً من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردِّي هو الذي قتله ، وإذا رميت طيراً فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإني أخشى أن يكون الغرق قتله " . قال أبو بكر : لما وَجَدَ هناك سبباً آخر وهو التردّي وقد يحدث عنه الموت حَظَرَ أكْلَهُ ، وكذلك الوقوع في الماء . وقد رُوي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا ابن عرفة قال : حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال : " إذا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ إنْ قَتَلَ إلاّ أَنْ تُصِيبَهُ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ " . ونظيره ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم في صيد الكلاب أنه قال : " إذا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ وَسَمَّيْتَ فَكُلْ ، وإنْ خَالَطَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلا تَأْكُلْ " ، فحظر صلى الله عليه وسلم أكْلَهُ إذا وُجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة ، وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه . وكذلك قول عبدالله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردَّى إنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تَلَفِهِ ، فجعل الحكم للحظر دون الإباحة . وكذلك لو اشترك مجوسيّ ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل .
مطلب : إذا اجتمع سبب الحظر والإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة
وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة .
وأما قوله تعالى : { والنَّطِيحَةُ } فإنه رُوي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت . وقال بعضهم : هي الناطحة حتى تموت . قال أبو بكر : هو عليهما جميعاً ، فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها .
وأما قوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } فإن معناه : ما أكل منه السبع حتى يموت ، فحَذَفَ ؛ والعرب تسمِّي ما قتله السبع وأكل منه أكِيلَةَ السَّبُعِ ، ويسمّون الباقي منه أيضاً أكِيلَةَ السَّبُعِ ؛ قال أبو عبيدة : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته . وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أُريد به الموت من ذلك . وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ، ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظور أكلها بعد أن لا يكون من فعل آدميّ على وجه التذكية .
وأما قوله تعالى : { إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه ؛ لأن قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه ، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة ، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه ، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة ؛ فكان حكم العموم فيه قائماً وكان الاستثناء عائداً إلى المذكور من عند قوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } ، لما رُوي ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم : " إن أدركت ذكاته بأن توجد له عَيْنٌ تطرف أو ذَنَبٌ يتحرك فأكْلُه جائز " . وحُكي عن بعضهم أنه قال : الاستثناء عائد إلى قوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ } دون ما تقدم لأنه يليه ؛ وليس هذا بشيء ، لاتفاق السلف على خلافه ، ولأنه لا خلاف أن سَبُعاً لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردَّى شاة من جبل ولم يُشْفِ بها ذلك على الموت فذكّاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل ، وكذلك النطيحة وما ذكر معها ، فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله : { والمُنْخَنِقَةُ } ؛ وإنما قوله : { إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله : " لكن ما ذكيتم " كقوله : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس } [ يونس : 98 ] ومعناه : لكن قوم يونس ؛ وقوله : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى } [ طه : 1 3 ] معناه : لكن تذكرة لمن يخشى ؛ ونظائره في القرآن كثيرة .
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها ، فذكر محمد في الأصل في المتردية : إذا أَدْرَكْتَ ذكاتها قبل أن تموت أكَلْتَ ، وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع . وعن أبي يوسف في الإملاء : أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش منه اليوم يُؤْكل وإن ذُكّي قبل الموت . وذكر ابن سماعة عن محمد : أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكّاها حلّت ، وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح ؛ واحتج بأن عمر كانت به جراحة مُتْلِفَةٌ وصحت عهوده وأوامره ، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القَوَدُ . وقال مالك : " إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت " . وقال الحسن بن صالح : " إذا صارت بحال لا تعيش أبداً لم تؤكل وإن ذبحت " . وقال الأوزاعي : " إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت ، والمصيودة إذا ذُبحت لم تؤكل " . وقال الليث : " إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جَوْفِها أكلت إلاّ ما بان عنها " . وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت : إن لم تذكّ فذكيت فلا بأس بأكلها .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { إلاّ ما ذَكَّيْتُمْ } يقتضي ذكاتها ما دامت حية ، فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش ، وأن تبقى قصير المدة أو طويلها ؛ وكذلك رُوي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحّت ذكاتها . ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المُتْلِفَةُ التي قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها بالذبح ، فكذلك المتردية ونحوها ؛ والله أعلم .
باب في شرط الذكاة
قال أبو بكر : قوله تعالى : { إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } اسم شرعي يَعْتَوِرُهُ معانٍ : منها موضع الذكاة وما يقطع منه ، ومنها الآلة ، ومنها الدين ، ومنها التسمية في حال الذكر ؛ وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة عليه . فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سببٍ من خارج ، وما مات حَتْفَ أنفه فغير مذكَّى ؛ وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة . فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللَّبَّةُ وما فوق ذلك إلى اللَّحْيَيْنِ . وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير : " لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه " . وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج ، وهي أربعة : الحلقوم ، والمريء ، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء ، فإذا فَرَى المذكّي ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها ، فإن قصر عنْ ذلك ففَرَى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بِشْرُ بن الوليد رَوَى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال : " إذا قطع أكثر الأوداج أكل ، وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أي جانب كان " ، وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ، ثم قال أبو يوسف بعد ذلك : " لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء ، وأحد العرقين " . وقال مالك بن أنس والليث : " يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئاً منها لم يجزه " ولم يذكر المريء . وقال الثوري : " لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم " . وقال الشافعي : " أقلّ ما يجزي من الذكاة قطع الحلقوم والمريء ، وينبغي أن يقطع الودجين وهما العرقان وقد يُسَلاَّن من البهيمة والإنسان ثم يحييان ، فإن لم يقطع العرقان وقطع الحلقوم والمريء جاز " .
وإنما قلنا إن موضع الذكاة النحر واللَّبة لما رَوَى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذكاة فقال : " في اللَّبَّةِ والحَلْقِ ، ولو طَعَنْتَ في فَخِذِهَا أجْزَأَ عَنْكَ " ، وإنما يعني بقوله صلى الله عليه وسلم : " لو طعنت في فخذها أجزأ عنك " فيما لا تقدر على مذبحه .
قال أبو بكر : ولم يختلفوا أنه جائز له قطع هذه الأربعة ، وهذا يدل على أن قَطْعَها مشروط في الذكاة ، ولولا أنه كذلك لما جاز له قطعها ، إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطاً في صحة الذكاة ؛ فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع . إلا أن أبا حنيفة قال : " إذا قطع الأكثر جاز مع تقصيره عن الواجب فيه ، لأنه قد قطع الأكثر والأكثر في مثلها يقوم مقام الكل ، كما أن قطع الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة قطع الكل في امتناع جوازه عن الأضحية " ، وأبو يوسف جعل شرط صحة الذكاة قَطْعَ الحلقوم والمريء وأحد العِرْقَيْنِ ، ولم يفرق أبو حنيفة بين قطع العرقين وأحد شيئين من الحلقوم والمريء وبين قطع هذين مع أحد العرقين ، إذ كان قطع الجميع مأموراً به في صحة الذكاة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس ، زاد ابن عيسى وأبي هريرة ، قالا : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شَرِيطَةِ الشيطان " زاد ابن عيسى في حديثه : وهي التي تُذبح فَيَقْطَعُ الجلد ولا يَفْرِي الأوداج ثم تُتْرَك حتى تموت ؛ وهذا الحديث يدلّ على أن عليه قطع الأوداج . وروى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كُل ما أَنْهَرَ الدَّمَ وأَفْرَى الأوْدَاجَ ماخَلاَ السِّنَّ والظُّفُرَ " . وروى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذْبَحُوا بكلّ ما أفْرَى الأوْدَاجَ وَهَرَاقَ الدَّمَ ما خَلاَ السِّنَّ والظُّفُرَ " . فهذه الأخبار كلها توجب أن يكون فَرْيُ الأوداج شرطاً في الذكاة ، والأوداجُ اسم يقع على الحلقوم والمريء والعرقين اللذين عن جنبيهما .
فصل
وأما الآلةُ فإن كل ما فَرَى الأوداج وأنْهَرَ الدم فلا بأس به والذكاة صحيحة ، غير أن أصحابنا كرهوا الظفر المنزوع والعظم والقرن والسنّ لما رُوي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما غير ذلك فلا بأس به ؛ ذكر ذلك في الجامع الصغير . وقال أبو يوسف في الإملاء : " لو أن رجلاً ذبح بليطة فَفَرَى الأوداج وأنْهَرَ الدمَ فلا بأس بذلك ، وكذلك لو ذبح بعود ، وكذلك لو نحر بوتد أو بشظاظ أو بمَرْوَةٍ لم يكن بذلك بأس ، فأما العظم والسنّ والظفر فقد نُهي أن يذكَّى بها ، وجاءت في ذلك أحاديث وآثار ، وكذلك القرن عندنا والناب " قال : " ولو أن رجلاً ذبح بسنه أو بظفره فهي مَيْتَةٌ لا تؤكل " وقال في الأصل : " إذا ذبح بسنّ نفسه أو بظفر نفسه فإنه قاتل وليس بذابح " . وقال مالك بن أنس : " كل ما بُضِعَ من عظم أو غيره فَفَرى الأوداج فلا بأس به " . وقال الثوري : " كل ما فَرَى الأوداج فهو ذكاة إلا السن والظفر " . وقال الأوزاعي : " لا يذبح بصَدَفِ البحر " . وكان الحسن بن صالح يكره الذبح بالقرن والسن والظفر والعظم . وقال الليث : " لا بأس بأن يذبح بكل ما أنهر الدم إلا العظم والسن والظفر " . واستثنى الشافعي الظفرَ والسِّنَّ .
قال أبو بكر : الظفر والسنّ المنهيُّ عن الذبيحة بهما ، إذا كانتا قائمتين في صاحبهما ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الظفر : " إنَّها مُدَى الحَبَشَةِ " وهم إنما يذبحون بالظفر القائم في موضعه غير المنزوع . وقال ابن عباس : " ذلك الخنق " . وعن أبي بشر قال : سألت عكرمة عن الذبيحة بالمَرْوَةِ ، قال : " إذا كانت حديدة لا تَثْرِدُ الأوداج فكُلْ " فشَرَطَ في ذلك أن لا تَثْرِدَ الأوداج ، وهو أن لا تَفْريها ، ولكنه يقطعها قطعة قطعة ، والذبح بالظفر والسن غير المنزوع يثرد ولا يفري فلذلك لم تصح الذكاة بهما ، وأما إذا كانا مَنْزُوعَيْنِ ففَرَيَا الأوداج فلا بأس ؛ وإنما كره أصحابنا منها ما كان بمنزلة السكين الكالة ، ولهذا المعنى كرهوا الذبح بالقرن والعظم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال : خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله كَتَبَ الإحْسَانَ على كُلِّ شَيْءٍ ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا " قال غير مسلم : " فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " فكانت كراهتهم للذبح بسن منزوع أو عظم أو قرن أو نحو ذلك من جهة كلاله لما يلحق البهيمة من الألم الذي لا يحتاج إليه في صحة الذكاة . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم أنه قال : قلت يا رسول الله أرأيت إن أحدنا أصاب صيداً وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال : " أَمْرِرِ الدَّمَ بما شِئْتَ واذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ " . وفي حديث نافع عن كعب بن مالك عن أبيه : " أن جارية سوداء ذكّت شاة بمروة ، فذكر ذلك كعبٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بأكلها " . وروى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وفي حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ فَكُلُوا إلاّ ما كَانَ مِنْ سِنٍّ أَوْ ظُفُرٍ " .
فصل
وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدوراً على ذبحه ، فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بَيَّنَّا . وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه . فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويُسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حدَّ له يجرحه ؛ ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعاً مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردَّى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته . وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين ، أحدهما : في الصيد إذا أُصيب بما لا يجرحه من الآلة ، فقال أصحابنا ومالك والثوري : " إذا أصابه بعَرْض المعراض لم يؤكل إلا أن يُدرك ذكاته " . وقال الثوري : " وإن رميته بحجر أو بندقة كرهْتُهُ إِلاّ أن تذكّيه ، ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة " . وقال الأوزاعي في صيد المعراض : " يؤكل خَزَقَ أو لم يخزق " ، قال : " وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً " . وقال الحسن بن صالح : " إذا خزق الحجر فكُلْ والبندقةُ لا تخزق " . وقال الشافعي : " إن خُزق المرميّ برميه أو قُطع بحدّه أكل ، وما جُرح بثقله فهو وقيذ ؛ وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان : أحدهما أن لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى : { مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبينَ } . والآخر أنه حِلّ " . قال أبو بكر : ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل . وأما الموضع الآخر : فما ليس بممتنع في الأصل ، مثل البعير والبقر إذا توحّش أو تردَّى في بئر ، فقال أصحابنا : " إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يُقتل كالصيد ويكون مذكًّى " وهو قول الثوري والشافعي . وقال مالك والليث : " لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة " . ورُوي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا ، وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد أنّ شرط ذكاته أن يجرحه بما له حدٌّ ، ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أُكل وإن أصاب بعرضه لم يُؤكل فإنه وقيذ ، لقوله تعالى : { وَالمَوْقُوذَةُ } ، فكل ما لا يجرح من ذلك فهو وَقِيذٌ محرَّمٌ بظاهر الكتاب والسّنة . وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن الخذف وقال : " إِنّها لا تَنْكَأُ العَدُوَّ ولا تَصِيدُ الصَّيْدَ ولكنّها تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ العَيْنَ " فدلّ على أن الجراحة في مثله لا تذكّى ، إذ ليس له حدّ ، وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حدٌّ ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المعراض : " إن أصَابَهُ بحَدِّهِ فَخَزَقَ فَكُلْ وإِنْ أَصَابَهُ بعَرْضِهِ فلا تَأْكُلْ " ولم يفرق بين ما يجرح ولا يجرح ؟ فدل ذلك على اعتبار الآلة وأن سبيلها أن يكون لها حدّ في صحة الذكاة بها . وكذلك قوله في الخذف : " إنّها لا تصيد الصَّيْدَ " يدلّ على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حدّ .
وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردَّى في بئر ، فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال : نَدَّ علينا بعيرٌ فرميناه بالنبل ، ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنَّ لَهَذَه الإبِلِ أوابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ فإذَا نَدَّ مِنْها شيءٌ فاصْنَعُوا به ذَلِكَ وَكُلُوهُ " ؛ وقال سفيان : وزاد إسماعيل بن مسلم : فرميناه بالنبل حتى رهصناه . فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبلُ لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط ذكاة غيره . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللَّبَّةِ والنَّحْرِ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لو طَعَنْتَ في فَخِذِهَا لأجْزَأ عَنْكَ " وهذا على الحال التي لا يَقْدِرُ فيها على ذبحها ، إذْ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته . ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاقُ الجميع على أن رَمْيَ الصيد يكون ذكاةً له إذا قتله ، ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين : إما أن يكون ذلك الجنس الصيد أو لأنه غير مقدور على ذبحه ، فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيّاً لم تكن ذكاتُه إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد ، دلّ ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه ، فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد .
مطلب : في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين
واختلف الفقهاء في الصيد يُقطع بعضه ، فقال أصحابنا والثوري وهو قول إبراهيم ومجاهد : " إذا قطعه بنصفين أكلا جميعاً ، وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل ، فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز " . وقال ابن أبي ليلى والليث : " إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعاً " . وقال مالك : " إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل ، وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي " . وقال الأوزاعي : " إذا أبان عَجزَهُ لم يأكل ما انقطع منه ويأكل سائره ، وإن قطعه بنصفين أكله كله " . وقال الشافعي : " إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقلّ من الأخرى ، وإن قطع يداً أو رِجْلاً أو شيئاً يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يَبِنْ منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة ، ولو مات من القطع الأوّل أكلهما جميعاً " .
قال أبو بكر : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا عبدالرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما قُطِعَ مِنَ البَهِيمَةِ وهي حَيَّةٌ فهُوَ مَيْتَةٌ " ، وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة ؛ وذلك لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكًّى ، فثبت بذلك أن المراد ما بَانَ منها من غير موضع الذكاة ، وذلك إنما يتناول الأقل منه ؛ لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة وهي الأوداج والحلقوم والمريء فيكون الجميع مذكًّى ، وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة " وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القَطْع ، فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة ، وما يلي الرأس كله مذكَّى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يُبِنْ منها شيئاً ، فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة .
فصل
وأما الدِّينُ فأن يكون الرامي أو المصطاد مسلماً أو كتابيّاً ، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى . وأما التسمية فهي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو عند الرمي أو إرسال الجوارح والكلب إذا كان ذاكراً ، فإن كان ناسياً لم يضرّه تَرْكُ التسمية ؛ وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى .
مطلب : في الفرق بين الصنم والنصب
وأما قوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ } فإنه رُوي عن مجاهد وقتادة وابن جريج أن النُّصُبَ أحجارٌ منصوبة كانوا يعبدونها ويقربون الذبائح لها ، فنهى الله عن أكل ما ذُبح على النُّصُبِ لأنه مما أُهل به لغير الله . والفرق بين النصب والصنم أن الصنم يُصور ويُنقش ، وليس كذلك النصب ؛ لأن النصب حجارة منصوبة والوَثَنُ كالنصب سواء . ويدل على أن الوثن اسم يقع على ما ليس بمُصَوَّرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم حين جاءه وفي عُنُقِهِ صليبٌ : " أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ " فسمَّى الصليب وَثَناً ، فدل ذلك على أن النُّصُبَ والوَثَنَ اسمٌ لما نُصب للعبادة وإن لم يكن مصوراً ولا منقوشاً . وهذه ذبائح قد كان أهل الجاهلية يأكلونها ، فحرّمها الله تعالى مع ما حرم من الميتة ولحم الخنزير وما ذكر في الآية مما كان المشركون يستبيحونه . وقد قيل إنها المرادة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } .
قوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأَزْلام } قيل في الاستقسام وجهان : أحدهما طلب علم ما قسم له بالأزلام ، والثاني : إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين . والاستقسامُ بالأزلام أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفراً أو غزواً أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القِدَاحَ وهي الأزلام ، وهي على ثلاثة أضرب : منها ما كتب عليه : " أمَرَنِي ربي " ومنها ما كتب عليه : " نهاني ربي " ومنها غفْلٌ لا كتابة عليه يسمَّى : " المَنِيحَ " . فإذا خرج " أمرني ربي " مضى في الحاجة ، وإذا خرج : " نهاني ربي " قعد عنها ، وإذا خرج الغفل أجالها ثانية . قال الحسن : كانوا يعمدون إلى ثلاثة قداح ؛ نحو ما وصفنا . وكذلك قال سائر أهل العلم بالتأويل . وواحد الأزلام " زَلْمٌ " وهي القداح ، فحظر الله تعالى ذلك ، وكان من فعل أهل الجاهلية ، وجعله فسقاً بقوله : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وهذا يدلّ على بطلان القرعة في عِتْقِ العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه ، إذ كان فيه اتباع ما أخرجته القُرْعَةُ من غير استحقاق ، لأن من أعتق عَبْدَيْهِ أو عبيداً له عند موته ولم يخرجوا من الثلث فقد علمنا أنهم متساوون في استحقاق الحرية ، ففي استعمال القرعة إثبات حريةٍ غير مستحقَّةٍ وحِرْمَانُ من هو مساوٍ له فيها ، كما يتبع صاحب الأزلام ما يخرجه الأمر والنهي لا سبب له غيره .
فإن قيل : قد جازت القرعة في قسمة الغنائم وغيرها وفي إخراج النساء . قيل له : إنما القرعة فيها لتطييب نفوسهم وبراءة للتهمة من إيثار بعضهم بها ، ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة ؛ وأما الحرية الواقعة على واحد منهم فغير جائز نقلها عنه إلى غيره ، وفي استعمال القرعة نقل الحرية عمن وقعت عليه وإخراجه منها مع مساواته لغيره فيها .
قوله عز وجل : { اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } قال ابن عباس والسدي : " يئسوا أن ترتدُّوا راجعين إلى دينهم " . وقد اختلف في اليوم ، فقال مجاهد : هو يوم عرفة عام حجة الوداع . { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أن يظهروا عليكم ؛ عن ابن جريج . وقال الحسن : " ذلك اليوم يعني به : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله " . قال ابن عباس : " نزلت يوم عرفة وكان يوم الجمعة " . قال أبو بكر : اسم اليوم يُطلق على الزمان ، كقوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } [ الأنفال : 16 ] إنما عَنَى به وقتاً مبهماً .
قوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } فإن الاضطرار هو الضّرُّ الذي يصيب الإنسان من جوع أو غيره ولا يمكنه الامتناع منه ؛ والمعنى ههنا من إصابة ضرّ الجوع ، وهذا يدل على إباحة ذلك عند الخوف على نفسه أو على بعض أعضائه ؛ وقد بين ذلك في قوله تعالى : { في مَخْمَصَةٍ } ؛ قال ابن عباس والسدي وقتادة : " المخمصة المجاعة " . فأباح الله عند الضرورة أَكْلَ جميع ما نصَّ على تحريمه في الآية ، ولم يمنع ما عرض من قوله : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } مع ما ذكر معه من عَوْدِ التخصيص إلى ما تقدم ذكره من المحرمات ، فالذي تضمنه الخطاب في أول السورة في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } إباحةُ الأنعام . { إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فيه بيان إباحة الصيد في حال الإحلال وغير داخل في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ، ثم بيَّنَ ما حُرِّم علينا في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ } إلى آخر ما ذكر ، ثم خصّ من ذلك حال الضرورة وأبان أنها غير داخلة في التحريم ، وذلك عامّ في الصيد في حال الإحرام وفي جميع المحرمات ، فمتى اضْطُرَّ إلى شيء منها حَلَّ له أكله بمقتضى الآية .
وقوله تعالى : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي : " غير معتمد عليه " فكأنه قال : غير معتمد بهواه إلى إثم ، وذلك بأن يتناول منه بعد زوال الضرورة .