الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { سُورَةٌ } : يَعْنِي مُنَزَّلَةً وَمُرَتَّبَةٌ ؛ أَلَمْ تَرَوْا قَوْلَ الشَّاعِرِ :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
وَعَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى رَفْعِهَا ، وَقَرَأَهَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالنَّصْبِ ؛ وَهُوَ بَيِّنٌ ، فَأَمَّا الرَّفْعُ فَقَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : إنَّهَا عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ ، التَّقْدِيرُ هَذِهِ سُورَةٌ ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ قَبِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ أَنَّهُ فَصِيحٌ مَلِيحٌ ، وَجِئْنَا فِيهِ بِالْمِثَالِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَرَضْنَاهَا } : يُقْرَأُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا ، فَمَنْ خَفَّفَ فَمَعْنَاهُ أَوْجَبْنَاهَا مُعَيَّنَةً مُقَدَّرَةً ، كَمَا قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى من الْمُسْلِمِينَ .
وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا عَلَى مَعْنَى وَضَعْنَاهَا فَرَائِضَ فَرَائِضَ ، أَوْ فَرْضًا فَرْضًا ، كَمَا تَقُولُ : نَزَّلْت فُلَانًا ، أَيْ قَدَّرْت لَهُ الْمَنَازِلَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم : " فَنَزَّلَنِي زَيْدٌ " أَيْ رَتَّبَ لِي مَنَازِلَ كَثِيرَةً .
الثَّانِي : عَلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ؛ فِيهَا حِجَجٌ وَتَوْحِيدٌ ، وَفِيهَا دَلَائِلُ الْأَحْكَامِ ، وَالْكُلُّ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ : حِجَجُ الْعُقُولِ تُرْشِدُ إلَى مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ ، وَدَلَائِلُ الْأَحْكَامِ تُرْشِدُ إلَى وَجْهِ الْحَقِّ ، وَتَرْفَعُ غُمَّةَ الْجَهْلِ ؛ وَهَذَا هُوَ شَرَفِ السُّورَةِ ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا وَقَعَ التَّحَدِّي بِهِ فِي سَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ ، فَيَكُونُ شَرَفًا لِلنَّبِيِّ فِي الْوِلَايَةِ ، شَرَفًا لَنَا فِي الْهِدَايَةِ .