الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ . الثَّانِي : نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَشَاءُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الرَّابِعُ - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ [ لِأَصْحَابِهِ فِي ] يَوْمِ الْأَضْحَى : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ؛ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ ، وَعِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ خَيْرٌ من شَاتَيْ لَحْمٍ . فَقَالَ : تُجْزِئُك ، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك . الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَة تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ سَبَبٍ .
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ [ النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
المسألة الرَّابِعَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ ] الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً ، وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ ؛ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْجَلَ من الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ ، وَلِمَا جَاءَ من جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ .
فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ لَحْظَةً ، كَالصَّلَاةِ ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ . وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ . وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ ، وَذَلِكَ يَقْوَى فِي النَّظَرِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى { لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ؛ وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ . فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ ، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ من الْبُكَاءِ ، فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : صَوَاحِبُ يُوسُفَ الْفِتْنَةَ بِالرَّدِّ عَنْ الْجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا .