الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ من نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إن أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ من نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةٍ :
المسألة الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا قَوْلًا أَوْ غَيْرَهُ ، لَا يَخْتَصُّ بِسَمَاعِ الْأَصْوَاتِ ، بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ وَيَعْلَمُهُ ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ بِأَبْدَعِ بَيَانٍ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَالْأُصُولِ ، وَكَذَلِكَ أَوْضَحْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَعَلُّقُ سَمِعْنَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُنَا ، وَلَكِنَّ الْبَارِي تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِتَعَلُّقِ رُؤْيَتِنَا بِالْأَلْوَانِ ، وَسَمْعِنَا بِالْأَصْوَاتِ ؛ وَلِلَّهِ الْحِكْمَةُ فِيمَا خَصَّ وَالْقُدْرَةُ فِيمَا عَمَّ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } : وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُجَادِلَةِ وَحَقِيقَتُهَا وَجَوَازُهَا فِي طَلَبِ قَصْدِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ ، وَأَمْرِ اللَّهِ بِهَا ، وَنَسْخِهِ وَتَخْصِيصِهِ لَهَا وَتَعْمِيمِهِ .
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُجَادِلَةِ :
وَفِيهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ : قِيلَ هِيَ خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ . وَقِيلَ هِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ دُلَيْجٍ . وَقِيلَ : بِنْتُ الصَّامِتِ . وَأُمُّهَا مُعَاذَةُ ؛ كَانَتْ أَمَةً لِابْنِ أُبَيٍّ . وَفِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ . . . } الْآيَةَ .
وَقِيلَ : خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ، وَهِيَ أَشْبَهُهَا ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ جَاءَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهِيَ عَجُوزَةٌ كَبِيرَةٌ ، وَالنَّاسُ مَعَهُ ، وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ قَالَ : فَجَنَحَ إلَيْهَا ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِهَا ، وَتَنَحَّى النَّاسُ عَنْهَا ، فَنَاجَاهَا طَوِيلًا ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، حَبَسْت رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ . قَالَ : أَتَدْرُونَ مَنْ هِيَ ؟ هَذِهِ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ ، سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَهَا من فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ؛ فَوَاَللَّهِ لَوْ قَامَتْ هَكَذَا إلَى اللَّيْلِ لَقُمْت مَعَهَا إلَى أَنْ تَحْضُرَ صَلَاةٌ ، وَأَنْطَلِقَ لِأُصَلِّيَ ثُمَّ أَرْجِعَ إلَيْهَا .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، إنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ ، وَهِيَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ ، وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ «قُلْت : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك . . . } .
وَنَصُّهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ من امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ لَهُ : وَاَللَّهِ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ أَثِمْت فِي شَأْنِي ، لَبِسْت جِدَّتِي ، وَأَفْنَيْت شَبَابِي ، وَأَكَلْت مَالِي ، حَتَّى إذَا كَبِرَتْ سِنِّي ، وَرَقَّ عَظْمِي ، وَاحْتَجت إلَيْك فَارَقْتنِي . قَالَ : مَا أَكْرَهَنِي لِذَلِكَ ، اذْهَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْظُرِي هَلْ تَجِدِينَ عِنْدَهُ شَيْئًا فِي أَمْرِك ؟
فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَلَمْ تَبْرَحْ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَعْتِقْ رَقَبَةً . قَالَ : لَا أَجِدُ ذَلِكَ . قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؛ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ . قَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا . قَالَ : لَا أَجِدُ . فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعِيرًا ، وَقَالَ : خُذْ هَذَا فَأَطْعِمْهُ » .
وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّ سَعِيدًا أَتَى أَبَا سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَحَدَ بَنِي بَيَاضَةَ ، كَانَ رَجُلًا ميطا فَلَمَّا جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ جَعَلَ امْرَأَتَهُ عَلَيْهِ كَأُمِّهِ ، فَرَآهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي بِرِيقِ الْقَمَرِ ، وَرَأَى بَرِيقَ خَلْخَالِهَا [ وَسَاقِهَا ] فَأَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا ، وَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ : أَتَيْت بِهَذَا يَا أَبَا سَلَمَةَ [ ثَلَاثًا ] ؟ فَأَمَرَ [ النَّبِيُّ ] أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً . قَالَ : مَا أَمْلِكُ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ . فَأَمَرَهُ بِالْإِطْعَامِ . قَالَ : إنَّمَا هِيَ وَجْبَةٌ . قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . قَالَ : مَا من عَمَلٍ يَعْمَلُهُ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيَّ من الصِّيَامِ . قَالَ : فَأَتَى النَّاسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِنَاعٍ فِيهِ تَمْرٌ . فَقَالَ لَهُ : خُذْ هَذَا ، فَتَصَدَّقْ بِهِ وَأَطْعِمْهُ عِيَالَك » .
[ وَقِيلَ هَذَا صَخْرُ بْنُ ] سَلَمَةَ بْنُ صَخْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ الَّذِي أَعْطَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمِجَنَّ يَوْمَ أُحُدٍ . وَقَالَ : وَجْهِي أَحَقُّ بِالْكَلْمِ من وَجْهِك ، وَارْتُثَّ بَعْدَ ذَلِكَ من الْقَتْلَى ، وَبِهِ رَمَقٌ ، وَقَدْ كُلِمَ كُلُومًا كَثِيرَةً ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُومَهُ ، وَاسْتَشْفَى لَهُ فَبَرِئَ ، وَفِيهِ نَزَلَتْ آيَةُ الظِّهَارِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ } :
رُوِيَ «أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ دُلَيْجٍ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ كَذَلِكَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَدْ حَرُمْت عَلَيْهِ ، [ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إلَى السَّمَاءِ ] فَقَالَتْ : إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ .
ثُمَّ عَادَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حَرُمْت عَلَيْهِ . فَقَالَتْ : [ إلَى اللَّهِ أَشْكُو حَاجَتِي إلَيْهِ ] ، وَعَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنَ ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَذَهَبَتْ أَنْ تُعِيدَ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، اُسْكُتِي ، فَإِنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ .
فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجِهَا : أَعْتِقْ رَقَبَةً . قَالَ : لَا أَجِدُ .
قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ . قَالَ : إنْ لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ خِفْت أَنْ يَعْشُوَ بَصَرِي . قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا . قَالَ : فَأَعِنِّي ، فَأَعَانَهُ [ بِشَيْءٍ ] .