المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } حَقِيقَتُهُ تَشْبِيهُ ظَهْرٍ [ بِظَهْرٍ ، وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مِنْهُ تَشْبِيهُ ظَهْرِ ] مُحَلَّلٍ بِظَهْرِ مُحَرَّمٍ ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ ، أُصُولُهَا سَبْعَةٌ :
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
الْفَرْعُ الثَّانِي : إذَا شَبَّهَ جُمْلَةَ أَهْلِهِ بِعُضْوٍ من أَعْضَاءِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنْ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَفِيهِ رَفْعُ التَّشْبِيهِ ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الْمُظَاهِرُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا إلَّا فِي الظَّهْرِ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا مُحَرَّمٌ ، فَكَانَ التَّشْبِيهُ بِهِ ظِهَارًا كَالظَّهْرِ ، وَلِأَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلِ بِالْمُحَرَّمِ ؛ فَلَزِمَ عَلَى الْمَعْنَى .
والْفَرْعُ الثَّالِثُ إذَا شَبَّهَ عُضْوًا من امْرَأَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَكُونُ ظِهَارًا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَصَحَّ إضَافَةُ الظِّهَارِ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي ، أَوْ مِثْلُ أُمِّي ، فَإِنْ نَوَى ظِهَارًا كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا كَانَ طَلَاقًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ ظِهَارًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ أَطْلَقَ تَشْبِيهَ امْرَأَتِهِ بِأُمِّهِ ، فَكَانَ ظِهَارًا ؛ أَصْلُهُ إذَا ذَكَرَ الظَّهْرَ ، وَهَذَا قَوِيٌّ ؛ إذْ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَاللَّفْظُ بِمَعْنَاهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ حُكْمُ الظَّهْرِ لِلَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ .
الْفَرْعُ الْخَامِسُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ ظِهَارًا ؛ وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتِ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالطَّلَاقِ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَيَحْتَمِلُ التَّحْرِيمَ بِالظِّهَارِ ، فَلَمَّا صَرَّحَ بِهِ كَانَ تَفْسِيرًا لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَضَى بِهِ فِيهِ .
الْفَرْعُ السَّادِسُ إنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَإِنْ ذَكَرَ الظَّهْرَ كَانَ ظِهَارًا حَمْلًا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَكُونُ ظِهَارًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَكُونُ طَلَاقًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ شَيْئًا ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلًا من الْمَرْأَةِ بِمُحَرَّمٍ ، فَكَانَ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ كَالظَّهْرِ . وَالْأَسْمَاءُ بِمَعَانِيهَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا ، وَهَذَا نَقْضٌ لِلْأَصْلِ مِنْهُمْ .
الْفَرْعُ السَّابِعُ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي كَانَ مُظَاهِرًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ ، وَهَذِهِ أَشْكَلُ من الَّتِي قَبْلَهَا . وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ مُؤَبَّدٍ كَالْأُمِّ .
المسألة السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { مِنْكُمْ } .
يَعْنِي من الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي خُرُوجَ الذِّمِّيِّ مِن الْخِطَابِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ .
قُلْنَا : هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالِاشْتِقَاقِ . وَالْمَعْنَى فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ فَاسِدَةٌ مُسْتَحِقَّةُ الْفَسْخِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ طَلَاقٍ وَلَا ظِهَارٍ ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } . وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى . وَقَدْ مَدَدْنَا أطْنَابَ الْقَوْلِ فِيهَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ .
وَلُبَابُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ وَإِذَا خُوطِبُوا فَإِنَّ أَنْكِحَتَهُمْ فَاسِدَةٌ لِإِخْلَالِهِمْ بِشُرُوطِهَا من وَلِيٍّ وَأَهْلٍ وَصَدَاقٍ وَوَصْفِ صَدَاقٍ ، فَقَدْ يَعْقِدُونَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، وَيَعْقِدُونَ [ بِغَيْرِ مَالٍ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَيَعْقِدُونَ فِي الْعِدَّةِ وَيَعْقِدُونَ ] نِكَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَإِذَا خَلَتْ الْأَنْكِحَةُ عَنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ ، وَلَا ظِهَارَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِحَالٍ .
المسألة السَّابِعَةُ : وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ يَقْتَضِي صِحَّةَ ظِهَارِ الْعَبْدِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ ، لِأَنَّهُ من جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَأَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثَابِتَةٌ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصِّيَامِ .
المسألة الثَّامِنَةُ : قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ تَظَاهُرٌ ، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ من نِسَائِهِمْ } وَلَمْ يَقُلْ : وَاَللَّاتِي يُظَاهِرْنَ مِنْكُنَّ من أَزْوَاجِهِنَّ ، وَإِنَّمَا الظِّهَارُ عَلَى الرِّجَالِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَسَالِمٍ ، وَيَحْيَى بْن سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ ، وَأَبِي الزِّنَادِ ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ وَالْعَقْدَ وَالتَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ ، لَيْسَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ . وَهَذَا إجْمَاعٌ .
المسألة التَّاسِعَةُ : يَلْزَمُ الظِّهَارُ فِي كُلِّ أَمَةٍ يَصِحُّ وَطْؤُهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ جِدًّا عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا يَقُولُ : إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْ ، فَكَيْفَ يُبْطَلُ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ ، وَيُصَحَّحُ كِنَايَتُهُ ، وَلَكِنْ تَدْخُلُ الْأَمَةُ فِي عُمُومِ : { مِنْ نِسَائِهِمْ } ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ من مُحَلَّلَاتِكُمْ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْبُضْعِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ فِي الْأَمَةِ ، أَصْلُهُ الْحلفُ بِاَللَّهِ .
المسألة الْعَاشِرَةُ : مَنْ بِهِ لَمَمٌ ، وَانْتَظَمَتْ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الْكَلِمُ إذَا ظَاهَرَ لَزِمَ ظِهَارُهُ ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ - وَكَانَ زَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ - فَدَاخَلَهُ بَعْضُ لَمَمِهِ ، فَظَاهَرَ من امْرَأَتِهِ » .
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مَنْ غَضِبَ فَظَاهَرَ من امْرَأَتِهِ أَوْ طَلَّقَ لَمْ يُسْقِطْ غَضَبُهُ حُكْمَهُ . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْن سَلَامٍ : حَدَّثَتْنِي خَوْلَةُ امْرَأَةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَتْ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي . ثُمَّ خَرَجَ إلَى نَادِي قَوْمِهِ . فَقَوْلُهَا : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ دَلِيلٌ عَلَى مُنَازَعَةٍ أَحْرَجَتْهُ ، فَظَاهَرَ مِنْهَا . وَالْغَضَبُ لَغْوٌ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا ، وَلَا يُغَيِّرُ شَرْعًا . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا عَقَلَ قَوْلَهُ ، وَنَظَمَ كَلَامَهُ .
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ من هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ فِي الظِّهَارِ بِالْفِرَاقِ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْكَفَّارَةِ . وَهَذَا نَسْخٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فِي زَمَانَيْنِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا ، وَاقِعٌ شَرْعًا . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النَّسْخِ .
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الظِّهَارُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ اسْتِمْتَاعٍ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْوَطْءُ بِالتَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ الِاسْتِمْتَاعِ .
المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا ظَاهَرَ من الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَرْطِ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا ، وَعِنْدَنَا يَكُونُ ظِهَارًا ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ لَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ [ إذَا زُوِّجَهَا ] لِأَنَّهَا من نِسَائِهِ حِينَ شَرَطَ نِكَاحَهَا . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ من هَذَا الْكِتَابِ .
المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا ظَاهَرَ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ من ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوِّلُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْجِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِوَجْهٍ ، فَكَانَتْ وَاحِدَةً . وَإِنْ عَلَّقَهُ بِعَدَدٍ ، أَصْلُهُ الْإِيلَاءُ ، وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْإِنْصَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجَبَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ .
المسألة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا } [ فَسَمَّاهُ مُنْكَرًا من الْقَوْلِ وَزُورًا ] ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ [ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالتَّحْرِيمِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ فِي حَالِ الْحَيْضِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ ] إذَا وَقَعَ .
المسألة الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } :
وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ .
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ .
الثَّالِثُ : الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ . السَّادِسُ : أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ .
السَّابِعُ : هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ .
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر ، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ من جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ . وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ من الْقَوْلِ وَزُورٌ ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ من قَتْلٍ وَوَطْءٍ فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَالَ { ثُمَّ } وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { ثُمَّ يَعُودُونَ } يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ من جِهَتِهِ ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ عَلَى الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الظِّهَارِ كَالْإِيلَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا رَآهَا كَالْأُمِّ لَمْ يُمْسِكْهَا ؛ إذْ لَا يَصِحُّ إمْسَاكُ الْأُمِّ بِالنِّكَاحِ . وَهَذه عُمْدَةُ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
قُلْنَا : إذَا عَزَمَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ ، وَرَآهَا خِلَافَ الْأُمِّ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْقَوْل أَنَّ الْعَزْمَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ ، وَهَذَا رَجُلٌ قَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَقَالَ قَوْلًا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَهُوَ الظِّهَارُ ، ثُمَّ عَادَ لِمَا قَالَ ، وَهُوَ قَوْلُ التَّحْلِيلِ ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ابْتِدَاءَ عَقْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاقٍ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ قَوْلُ عَزْمٍ يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَهُ ، وَقَالَهُ فِي نَفْسِهِ من الظِّهَارِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَفَّرَ ، وَعَادَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ ، فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي مُوَافَقَةِ الْمُحَرَّمِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْزِمُ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ بِمُحَلَّلٍ ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ .
المسألة التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَتَعَدَّدْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ .
قُلْنَا : أَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاحِدَةُ فَقُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ . وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَوْلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْا - مِنْهُمْ النَّسَائِيّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَدْ ظَاهَرَ من امْرَأَتِهِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي قَدْ ظَاهَرْت من امْرَأَتِي ، فَوَقَعْت عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ . قَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُك اللَّهُ ، قَالَ : رَأَيْت خَلْخَالَهَا فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ . فَقَالَ : لَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللَّهُ » .
المسألة الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ الظِّهَارِ ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَمْ يَطَأْ حَتَّى يُكَفِّرَ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَبَنَاهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْدِ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، فَلَا مَعْنًى لِإِعَادَتِهِ .
المسألة الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إذَا ظَاهَرَ مُوَقِّتًا بِزَمَانٍ . قَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ مُؤَبَّدًا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْغُو ؛ وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الظِّهَارِ عُمُومٌ فِي الْمُؤَقَّتِ وَالْمُؤَبَّدِ . وَإِذَا وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ لَمْ يَرْفَعْهُ مُرُورُ الزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ رَافِعَةً لَهُ . وَقَدْ وَافَقَنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ زَمَانًا مُؤَقَّتًا لَزِمَهُ الطَّلَاقُ عَامًّا ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُ عَنْهُ .
المسألة الثَّانِيَةُ : وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ الرَّقَبَةِ ، وَأَنَّهَا السَّلِيمَةُ من الْعُيُوبِ ، وَفِي أَنَّهَا الْمُؤْمِنَةُ لَيْسَتْ الْكَافِرَةَ ، وَهِيَ :
المسألة الثَّالِثَةُ : وَالْعِشْرُونَ وَأَنَّهَا مَنْ لَا شَائِبَةَ لِلْحُرِّيَّةِ فِيهَا ، كَالْمُكَاتَبَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَمِيعِ ، وَهِيَ :
المسألة الرَّابِعَةُ : وَالْعِشْرُونَ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُجْزِي ، فَالْمُكَاتَبَةُ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّ [ عَقْدَ ] الْحُرِّيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهَا ، وَهِيَ من السَّيِّدِ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَرَجَّحْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَشْبَهُ بِأُمِّ الْوَلَدِ مِنْهَا بِالْأَمَةِ ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من اعْتِبَارِ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهِيَ :
المسألة الْخَامِسَةُ : وَالْعِشْرُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
المسألة السَّادِسَةُ : وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ أَوْ حَالُ الْأَدَاءِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ حَالُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ . وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا . وَالثَّانِي الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ . وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَظَاهِرُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ فِيهِ ] يَرْتَبِطُ الْوُجُوبُ بِالْعَوْدِ ، وَفِيهِ يَرْتَبِطُ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالَةُ الِارْتِبَاطِ ، بَيْدَ أَنَّهُ لِلْمَسْأَلَةِ حَرْفٌ جَرَى فِي أَلْسِنَةِ عُلَمَائِنَا من غَيْرِ قَصْدٍ ، وَهُوَ مَقْصُودُ المسألة ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَةِ صِفَةُ الْعِبَادَةِ أَوْ صِفَةُ الْعُقُوبَةِ . وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ صِفَةَ الْعُقُوبَةِ ؛ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا صِفَةَ الْقُرْبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ صِفَةَ الْقُرْبَةِ فَالْقُرْبُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَالِ الْإِجْزَاءِ خَاصَّةً بِحَالِ الْأَدَاءِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ ، وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ هِيَ الْحُدُودُ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَائِمًا ، ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ فِيهَا فَهَذَا من الْمُغَايِرِ لِلْقُرْبَةِ فِي الْهَيْئَاتِ ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا جِنْسَانِ ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ أَبُو الْمَعَالِي .
قُلْنَا : إنْ كَانَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ جِنْسَيْنِ فَإِنَّ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ ضِدَّانِ ، فَالْخُرُوجُ من جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ أَقْرَبُ من الْعُدُولِ من ضِدٍّ إلَى ضِدٍّ .
فَإِنْ قِيلَ : الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِلصَّلَاةِ ؛ فَاعْتُبِرَ حَالُ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهَا .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُرَادُ لِحِلِّ الْمَسِيسِ ؛ فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَى الْمَسِيسِ اُعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا .
المسألة السَّابِعَةُ : وَالْعِشْرُونَ - قَدْ بَيَّنَّا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَسَطُ من الْإِطْعَامِ ، وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ : مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ ، وَهُوَ الشِّبَعُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الطَّعَامَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَسَطَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ : مُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . قِيلَ لَهُ : أَلَمْ تَكُنْ قُلْت : مُدُّ هِشَامٍ ، قَالَ : بَلَى ، وَمُدَّانِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبُّ إلَيَّ . وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا . وَمُدُّ هِشَامٍ هُوَ مُدَّانِ غَيْرُ ثُلُثٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَالَ أَشْهَبُ : قُلْت لَهُ : أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ دُونَكُمْ ، وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَكْثَرَ مِمَّا نَأْكُلُ نَحْنُ ، وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَقَعَ الْكَلَامُ هَاهُنَا كَمَا تَرَوْنَ فِي مُدِّ هِشَامٍ ، وَدِدْت أَنْ يُهَشِّمَ الزَّمَانُ ذِكْرَهُ ، وَيَمْحُوَ من الْكُتُبِ رَسْمَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ الَّتِي نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا الرَّسُولُ ، وَوَقَعَ عِنْدَهُمْ الظِّهَارُ وَقِيلَ لَهُمْ فِيهِ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَهِمُوهُ وَعَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ ، وَأَنَّهُ الشِّبَعُ ، وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ مُتَقَدِّرٌ لَدَيْهِمْ ، فَقَدْ كَانُوا يَجُوعُونَ لِحَاجَةٍ وَيَشْبَعُونَ بِسُنَّةٍ لَا بِشَهْوَةٍ [ وَمَجَاعَةٍ ] ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّبَعِ فِي الْأَخْبَارِ كَثِيرًا ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ فِي الْأَنْوَارِ ، وَاسْتَمَرَّتْ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، حَتَّى نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِ هِشَامٍ ، فَرَأَى مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشْبِعُهُ ، وَلَا مِثْلَهُ من حَاشِيهِ وَنُظَرَائِهِ ، فَسَوَّلَ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ مُدًّا يَكُونُ فِيهِ شِبَعُهُ ، فَجَعَلَهُ رَطْلَيْنِ ، وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا ابْتَلَّ عَادَ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ ، فَغَيَّرَ السُّنَّةَ ، وَأَذْهَبَ مَحَلَّ الْبَرَكَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَعَا رَبَّهُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ : مِثْلَ مَا بَارَكَ لِإِبْرَاهِيمَ بِمَكَّةَ . فَكَانَتْ الْبَرَكَةُ تَجْرِي بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُدِّهِ ، فَسَعَى الشَّيْطَانُ فِي تَغْيِيرِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَإِذْهَابِ الْبَرَكَةِ ، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا هِشَامٌ ، فَكَانَ من حَقِّ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُلْغُوا ذِكْرَهُ ، وَيَمْحُوا رَسْمَهُ ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرُوا أَمْرَهُ ، وَأَمَّا أَنْ يُحِيلُوا عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَيَجْعَلُوهُ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفَسِّرًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَخَطْبٌ جَسِيمٌ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رِوَايَةُ أَشْهَبَ فِي ذِكْرِ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَحَبَّ إلَيْنَا من الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا بِمُدِّ هِشَامٍ .
أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ [ لِأَشْهَبَ ] : الشِّبَعُ عِنْدَنَا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَنَا بِالْبَرَكَةِ ، وَبِهَذَا أَقُولُ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ إذَا أُدِّيَتْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَ أَسْرَعَ لِلْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ كَانَ قَلِيلُهَا أَثْقَلَ فِي الْمِيزَانِ ، وَأَبْرَكَ فِي يَدِ الْآخِذِ ، وَأَطْيَبَ فِي شِدْقِهِ ، وَأَقَلَّ آفَةً فِي بَطْنِهِ ، وَأَكْثَرَ إقَامَةً لِصُلْبِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
المسألة الثَّامِنَةُ : وَالْعِشْرُونَ قَوْلُهُ : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ من قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } يَقْتَضِي أَنَّ الْوَطْءَ لِلزَّوْجَةِ فِي لَيْلِ صَوْمِ الظِّهَارِ يُبْطِلُ الْكَفَّارَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِعْلَهَا قَبْلِ التَّمَاسِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْمَسِيسِ فِي الْوَطْءِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ . قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّوْمَ قَبْلَ التَّمَاسِّ ، فَإِذَا وَطِئَ فِيهِ فَقَدْ [ تَعَذَّرَ كَوْنُهُ قَبْلَهُ ، فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ بَعْضُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَهُ ، وَإِذَا اسْتَأْنَفَهَا ] كَانَ الْوَطْءُ قَبْلَ جَمِيعِهَا ، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي بَعْضِهَا أَوْلَى من تَرْكِهِ فِي جَمِيعِهَا .
قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُذَقْ طَعْمَ الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمُحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَطْءُ تَعَدٍّ ، فَلَا بُدَّ من الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ .
المسألة التَّاسِعَةُ : وَالْعِشْرُونَ من غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السَّفِيهِ وَالرَّشِيدِ . وَهَذَا فِقْهٌ ضَعِيفٌ لَا يُنَاسِبُ قَدْرَهُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَجْرِ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشِيًا ، وَالنَّظَرُ يَقْتَضِيهِ . وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجْرٌ لِصِغَرٍ أَوْ لِوِلَايَةٍ ، وَبَلَغَ سَفِيهًا قَدْ نُهِيَ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ فِعْلُهُ فِيهِ ؟ وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .