قوله تعالى:{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللاّئي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور 2 والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير 3 فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم 4} .
هذه الآية أصل الظهار ،وهو مشتق من الظهر .وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها أنت علي كظهر أمي .وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا عليه في جاهليتهم .
وقد أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر .أما إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غيرهما من ذوات المحارم فإنه مظاهر كذلك في قول أكثر العلماء .وهو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة وآخرين .وروي عن الشافعي قوله مثل ذلك .ووجهه أنه شبّه امرأته بظهر محرم عليه على التأبيد كالأم .وفي رواية عنه أخرى أنه لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها .
على أن ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية .أما الصريح فقوله لها: أنت علي كظهر أمي .أو أنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي .وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحو ذلك .وكذلك قوله لها: فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر .كما لو قال لها: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق فإنها تطلق عليه .وهو قول المالكية والشافعية .أما الحنيفة فقالوا: إذا قال لها أنت عليّ كيد أمي أو كرأسها .أو ذكر شيئا يحل له النظر إليه منها لم يكن مظاهرا .وإن قال لها: أنت علي كبطنها أو فخذها ونحو ذلك كان مظاهرا ،لأنه لا يحل له النظر إليه كالظهر .أما الكناية فقوله لها: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه ينظر إلى نيته .فإن أراد الظهار كان ظهار .وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا .
أما الظهار بغير ذوات المحارم كما لو ظاهر بالأجنبية فإنه ليس بشيء وهو قول الحنفية والشافعية وبعض المالكية .ووجه ذلك أن الأجنبية قد تحل له بتملك بعضها فتكون مثل زوجته وفي حكمها .وفي رواية عن مالك أن ذلك ظهار .وروي عنه أيضا أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء .
أما النساء فليس عليهن ظهار وإنما الظهار على الرجال فقط ،لصريح قوله:{الذين يظاهرون منكم من نسائهم} ولم يقل"اللاتي يظاهرن منكن من أزواجهن "وقد ذهب إلى ذلك عامة أهل العلم .وعلى هذا لو قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي فلا تكون متظاهرة وليس ذلك بشيء .
واختلفوا فيما يحرمه الظهار .فقد ذهبت الحنفية والمالكية وآخرون إلى أن المظاهر لا يلمس ولا يقبّل ولا ينظر إلى فرجها لشهوة حتى يكفر .وقال مالك: لا ينظر إلى شعرها ولا إلى صدرها حتى يكفّر .وقيل: يأتيها فيما دون الفرج .ولو ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة كان مظاهرا من كل واحدة منهن وليس له أن يطأ إحداهن حتى يكفر ،وتجزئه كفارة واحدة .وعند الإمام الشافعي أنه تلزمه أربع كفارات{[4474]} .
قوله:{ما هن أمهاتهم} يعني ما نساؤهم اللاتي يظاهرون منهن بأمهاتهم بل هن زوجاتهم وهن لهم حلال{إن أمهاتهم إلا اللاّئي ولدنهم} يعني ما أمهاتهم إلا اللائي ولدوا منهن أو والدتهم وليس اللائي ظاهروا منهن{وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} منكرا وزورا منصوب على الوصف لمصدر محذوف وتقديره: وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا{[4475]} يعني وإن هؤلاء الرجال المظاهرين ليقولون قولا مستقبحا لا تعرف صحته في الشرع{وزورا} أي كذبا{وإن الله لعفو غفور} الله يصفح عن ذنوب عباده ويستر عليهم سيئاتهم وقد جعل لهم الكفارة سبيلا للتخلص من هذه الخطيئة .وكذلك يعفو الله عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم كما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي .فقال:"أختك هي ؟"فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك ،لأنه لم يقصده ولو قصده لحرّمت عليه .