قال الإمام أحمد:حدثنا سعد بن إبراهيم ، ويعقوب قالا:حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة ، عن ابن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة قالت:في - والله - وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة "المجادلة "قالت:كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت:فدخل علي يوما فراجعته بشيء ، فغضب فقال:أنت علي كظهر أمي . قالت:ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي . قالت:قلت:كلا والذي نفس خويلة بيده ، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه . قالت:فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت:ثم خرجت إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابا ، ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت:فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه ". قالت:فوالله ما برحت حتى نزل في القرآن ، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه ، ثم سري عنه ، فقال لي:"يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك ". ثم قرأ علي:( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) إلى قوله:( وللكافرين عذاب أليم ) قالت:فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مريه فليعتق رقبة ". قالت:فقلت يا رسول الله ، ما عنده ما يعتق . قال:"فليصم شهرين متتابعين ". قالت:فقلت:والله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال:"فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ". قالت:فقلت:يا رسول الله ، ما ذاك عنده . قالت:فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"فإنا سنعينه بعرق من تمر ". قالت:فقلت:يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال:"فقد أصبت وأحسنت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا ". قالت:ففعلت .
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين ، عن محمد بن إسحاق بن يسار به . وعنده:خولة بنت ثعلبة ، ويقال فيها:خولة بنت مالك بن ثعلبة . وقد تصغر فيقال:خويلة . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب ، والله أعلم .
هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كان سبب النزول ، ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة من العتق ، أو الصيام ، أو الإطعام ، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال:كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت:انطلقوا معي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بأمري . فقالوا:لا والله لا نفعل ; نتخوف أن ينزل فينا - أو يقول فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك . قال:فخرجت حتى أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته خبري . فقال لي:"أنت بذاك ". فقلت:أنا بذاك . فقال:"أنت بذاك ". فقلت:أنا بذاك . قال:"أنت بذاك ". قلت:نعم ، ها أنا ذا فأمض في حكم الله تعالى فإني صابر له . قال:"أعتق رقبة ". قال:فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت:لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها . قال:"فصم شهرين ". قلت:يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال:"فتصدق ". فقلت:والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء . قال:"اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ". قال:فرجعت إلى قومي فقلت:وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم ، فادفعوها إلي . فدفعوها إلي .
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجه ، واختصره الترمذي وحسنه
وظاهر السياق:أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة ، كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل .
قال خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس:أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك ، فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:يا رسول الله ، إن أوسا ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطني منه ، وقدمت صحبته . وهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء . فأنزل الله:( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) إلى قوله:( وللكافرين عذاب أليم ) فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"أتقدر على رقبة تعتقها ؟ ". قال:لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها ؟ قال:فجمع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله رواه ابن جرير
ولهذا ذهب ابن عباس والأكثرون إلى ما قلناه ، والله أعلم .
فقوله تعالى:( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ) أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها:أنت علي كظهر أمي ، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسا على الظهر ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا ، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ، ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم . هكذا قال غير واحد من السلف .
قال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية:أنت علي كظهر أمي ، حرمت عليه ، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوسا ، وكان تحته ابنة عم له يقال لها:"خويلة بنت ثعلبة . فظاهر منها ، فأسقط في يديه ، وقال:ما أراك إلا قد حرمت علي . وقالت له مثل ذلك ، قال:فانطلقي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فأتت رسول الله فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه ، فقال:"يا خويلة ، ما أمرنا في أمرك بشيء فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"يا خويلة ، أبشري "قالت:خيرا . قال فقرأ عليها:( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) إلى قوله:( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) قالت:وأي رقبة لنا ؟ والله ما يجد رقبة غيري . قال:( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) قالت:والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره ! قال:( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) قالت:من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها ! قال:فدعا بشطر وسق - ثلاثين صاعا ، والوسق:ستون صاعا - فقال:"ليطعم ستين مسكينا وليراجعك "وهذا إسناد جيد قوي ، وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا ، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا على بن عاصم ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية قال:كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الأنصار ، وكان ضرير البصر فقيرا سيئ الخلق ، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته ، قال:"أنت علي كظهر أمي ". وكان لها منه عيل أو عيلان ، فنازعته يوما في شيء فقال:"أنت علي كظهر أمي ". فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت عائشة ، وعائشة تغسل شق رأسه ، فقدمت عليه ومعها عيلها ، فقالت:يا رسول الله ، إن زوجي ضرير البصر ، فقير لا شيء له ، سيئ الخلق ، وإني نازعته في شيء فغضب ، فقال:"أنت علي كظهر أمي "، ولم يرد به الطلاق ، ولي منه عيل أو عيلان ، فقال:"ما أعلمك إلا قد حرمت عليه "، فقالت:أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبيي . قال:ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر ، فدارت معها ، فقالت:يا رسول الله ، زوجي ضرير البصر ، فقير سيئ الخلق ، وإن لي منه عيلا أو عيلين ، وإني نازعته في شيء فغضب ، وقال:"أنت علي كظهر أمي "، ولم يرد به الطلاق ! قالت:فرفع إلي رأسه وقال:"ما أعلمك إلا قد حرمت عليه ". فقالت:أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبيي ؟ قال:ورأت عائشة وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - تغير ، فقالت لها:"وراءك وراءك ؟ "فتنحت ، فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غشيانه ذلك ما شاء الله ، فلما انقطع الوحي قال:"يا عائشة ، أين المرأة "فدعتها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اذهبي فأتني بزوجك ". فانطلقت تسعى فجاءت به . فإذا هو - كما قالت - ضرير البصر ، فقير سيئ الخلق . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أستعيذ بالله السميع العليم ، بسم الله الرحمن الرحيم ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) إلى قوله:( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها ؟ ". قال:لا . قال:"أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ ". قال:والذي بعثك بالحق ، إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد أن يعشو بصري . قال:"أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ ". قال:لا إلا أن تعينني . قال:فأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"أطعم ستين مسكينا ". قال:وحول الله الطلاق ، فجعله ظهارا .
ورواه ابن جرير ، عن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، سمعت أبا العالية فذكر نحوه ، بأخصر من هذا السياق
وقال سعيد بن جبير:كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية ، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر ، وجعل في الظهار الكفارة . رواه ابن أبي حاتم بنحوه .
وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله:( منكم ) فالخطاب للمؤمنين ، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، واستدل الجمهور عليه بقوله:( من نسائهم ) على أن الأمة لا ظهار منها ، ولا تدخل في هذا الخطاب .
وقوله:( ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ) أي:لا تصير المرأة بقول الرجل:"أنت علي كأمي "، أو "مثل أمي "، أو "كظهر أمي "، وما أشبه ذلك ، لا تصير أمه بذلك ، إنما أمه التي ولدته ; ولهذا قال:( وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) أي:كلاما فاحشا باطلا ( وإن الله لعفو غفور ) أي:عما كان منكم في حال الجاهلية . وهكذا أيضا عما خرج من سبق اللسان ، ولم يقصد إليه المتكلم ، كما رواه أبو داود:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لامرأته:يا أختي . فقال:أختك هي ؟ "، فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك ; لأنه لم يقصده ، ولو قصده لحرمت عليه ; لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت ، وعمة ، وخالة ، وما أشبه ذلك .