الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ من آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي { سُبْحَانَ } :
وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ . وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا من الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ . وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ من الْعَرَبِ من يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ . الثَّانِي : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، و مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ من السُّوءِ ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ *** سُبْحَانَ من عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَلِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَصَادِرِ ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي عَلَى فُعْلَانَ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَلِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ . وأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ مُنَادًى فَإِنَّهُ يُنَادَى فِيهِ بِالْمَعْرِفَةِ من مَكَان بَعِيدٍ ، وَهُوَ كَلَامٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى فَارِغَةٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ لَا يَعْصِمُهُ ذَلِكَ من أَنْ يُقَالَ لَهُ : هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ ؟ وَمَا زَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُجْرِي فِي الْمَنْقُولِ طَلْقَهُ حَتَّى إذَا جَاءَ الْمَعْقُولُ عَقَلَهُ الْعِيُّ وَأَغْلَقَهُ .
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي ، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ :
يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ *** يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا *** فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ : لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ ؟ وَلَوْلَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا ، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ ، لَا بِالطَّبِيعَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ من أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ ، فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ من ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ؟ فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ . قُلْنَا لَهُ : قَدْ وَرَدَ من كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ ؛ قَالَ أَنَسٌ : قَالَ أَبُو ذَرٍّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي ، وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ، فَفَرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ من ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ : افْتَحْ . قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا جِبْرِيلُ . قَالَ : هَلْ مَعَك أَحَدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، مَعِي مُحَمَّدٌ . فَقَالَ : أُرْسِلَ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ . قُلْت : يَا جِبْرِيلُ ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَم ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى . ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا : افْتَحْ ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ ، فَفَتَحَ .
قَالَ أَنَسٌ : فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ ، وَإِدْرِيسَ ، وَمُوسَى ، وَعِيسَى ، وَإِبْرَاهِيمَ . ) وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا ، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ .
قَالَ أَنَسٌ : ( فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ . فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا إدْرِيسُ . ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ . قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : مُوسَى . ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ . قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : عِيسَى . ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ . قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : إبْرَاهِيمُ ) .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ ) .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً ، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى ، فَقَالَ : مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك ؟ قُلْت : فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً . قَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعَنِي ، فَرَجَعْت ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى ، قُلْت : وَضَعَ شَطْرَهَا . فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ . فَرَجَعْت ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا ، فَرَجَعْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ ، فَرَاجَعْته ، فَقَالَ : هِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ . فَرَجَعْت إلَى مُوسَى ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ، فَقُلْت : قَدْ اسْتَحْيَيْت من رَبِّي . قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ ) .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ . ) وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ ، إلَى أَنْ قَالَ : ( ثُمَّ اسْتَيْقَظْت ، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) .
قُلْنَا : عَنْهُ أَجْوِبَةٌ ؛ مِنْهَا :
أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ . الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا ، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ ؛ ( أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ من دِيبَاجٍ فِيهِ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك ، وَقَالَ لَهُ : اقْرَأْ . فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ ، فَقَالَ : اقْرَأْ . قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ) إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ . فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ . وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ من ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً ، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً ، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ من طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ؛ وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا اُفْتُتِنَ بِهَا أَحَدٌ ، وَلَا أَنْكَرَهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ يَخْتَرِقُ السَّمَاوَاتِ ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ ، وَيُكَلِّمُهُ الرَّبُّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ ؛ وَقَدْ رُوِيَ ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةَ الْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ) ، وَيَتَنَفَّلُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ من طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا ، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ أَعْدَادَهَا وَصِفَاتِهَا ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ عِنْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ . ثُمَّ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ وَقَائِلٌ يَقُولُ : أَطْلَعَتْ الشَّمْسُ ؟ لَمْ تَطْلُعْ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا وَقْتُك ، وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك ، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ ) . وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ من عُلُومٍ ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا من حَدِيثٍ وَطُرُقِهِ ، وَلُغَةٍ وَتَصْرِيفِهَا ، وَتَوْحِيدٍ وَعَقْلِيَّاتٍ ، وَعِبَادَاتٍ وَآدَابٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ وَرَقَةً ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ من دَاءِ الْجَهْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .