الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَقِسْمِ الْأَفْعَالِ من الْأَمَدِ الْأَقْصَى مَعْنَى النُّزُولِ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الْمَلِكَ عَلِمَهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنْهَاهُ فِي السُّفْلِ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى عَنْ الْحِسِّ إلَى الْعَقْلِ ؛ إذْ الْمَحْسُوسُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ المرتبُ عَلَيْهِ .
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي تَمْيِيزِ الْمُنَزَّلِ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ الْعِلْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { فِي لَيْلَةِ }
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لَيْلًا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا من اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي رَمَضَانَ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ، وَأَنْزَلَهُ مِن الشَّهْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لَيْلَةِ الْقَدْرِ }
قِيلَ : لَيْلَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ . وَقِيلَ : لَيْلَةُ التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ . وَهُوَ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ :
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ . وَمِنْ شَرَفِهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً ، وَمِنْ شَرَفِهَا بَرَكَتُهَا وَسَلَامَتُهَا الَّتِي يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهَا .
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَبَّرَ الْحَوَادِثَ وَالْكَوَائِنَ قَبْلَ خَلْقِهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ من غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَعَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا بِغَيْرِ أَمَدٍ ؛ وَمِنْ جَهَالَةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ السَّفَرَةَ أَلْقَتْهُ إلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَأَلْقَاهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً . وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ [ اللَّهِ وَاسِطَةٌ . وَلَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَاسِطَةٌ ] .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي السَّنَةِ من الْأَرْزَاقِ وَالْمَصَائِبِ ، وَمَا يُقَسَّمُ من السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَالْمَطَرِ وَالرِّزْقِ ، حَتَّى يَكْتُبَ فُلَانٌ يَحُجُّ فِي الْعَامِ ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ، فَقَدْ فَرَغَ من ذَلِكَ ، وَنَسَخَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إلَى مِثْلِهَا ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَنْكِحُ النِّسَاءَ ، وَيَغْرِسُ الْغُرُوسَ ، وَاسْمُهُ فِي الْأَمْوَاتِ مَكْتُوبٌ .