الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا }
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَّقَ حَفْصَةَ ، فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ . وَقِيلَ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ ، وَهِيَ من أَزْوَاجِك فِي الْجَنَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ عَمْرٍو ، وَطُفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْثَلُ .
وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِشَرْعٍ مُبْتَدَإٍ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ } :
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ ، وَقَوْلُهُ : { طَلَّقْتُمْ } خَبَرٌ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ ، وَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ من حَاضِرٍ وَغَائِبٍ [ وَذَلِكَ ] لُغَةٌ فَصِيحَةٌ . كَمَا قَالَ : { حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } : تَقْدِيرُهُ يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لَهُمْ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ . وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ لَفْظًا ، وَالْمَعْنَى لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ . وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَاطَفَهُ بِقَوْلِهِ : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ . وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَهُ قَالَ : يَأَيُّهَا الرَّسُولُ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْظِيمًا ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ : { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } كَقَوْلِهِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ } ؛ فَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى تَقْدِمَتِهِمْ وَتَكْرِمَتِهِمْ ، ثُمَّ افْتَتَحَ فَقَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ . . . . } الْآيَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهَا : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْت أَنْتَ وَالْمُخْبَرُونَ الَّذِينَ أَخْبَرْتُهُمْ بِذَلِكَ النِّسَاءَ فَلْيَكُنْ طَلَاقُهُنَّ كَذَا ؛ وَسَاغَ هَذَا لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ يَقْضِي مُنَبَّأً . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ صَحِيحٌ فِيهَا .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِعِدَّتِهِنَّ } يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ من الْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ خَرَجْنَ بِقَوْلِهِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { لِعِدَّتِهِنَّ } . قِيلَ : الْمَعْنَى فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى فِي ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي } أَيْ فِي حَيَاتِي . وَهَذَا فَاسِدٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ . وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الَّتِي تُعْتَبَرُ . وَاللَّامُ عَلَى أَصْلِهَا ، كَمَا تَقُولُ : افْعَلْ كَذَا لِكَذَا ، وَيَكُونُ مَقْصُودُ الطَّلَاقِ وَالِاعْتِدَادِ مَآلَهُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي } يَعْنِي حَيَاةَ الْقِيَامَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الدَّائِمَةُ .
المسألة الْخَامِسَةُ : مَا هَذِهِ الْعِدَّةُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا الطُّهْرُ قَرَأَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا ، رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ : «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] - فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ [ يُمْسِكْهَا ] حَتَّى تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ؛ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ » . وَهَذَا بَالِغٌ قَاطِعٌ ، لِأَجْلِ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ :
المسألة السَّادِسَةُ : أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا جَمَعَ سَبْعَةَ شُرُوطٍ ؛ وَهِيَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ، وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ ، طَاهِرًا لَمْ يَمَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ، وَلَا تَقَدَّمَهُ طَلَاقٌ فِي حَيْضٍ ، وَلَا تَبِعَهُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ يَتْلُوهُ ، وَخَلَا عَنْ الْعِوَضِ ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ السَّبْعَةُ مُسْتَقرَآتٌ من حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يَكُنْ بِدْعَةً .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً . يُقَالُ ذَلِكَ لِفِقْهٍ يَتَحَصَّلُ ؛ وَهُوَ : أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا فِي الطَّلَاقِ تُعْتَبَرُ بِالزَّمَانِ وَالْعَدَدِ . وَفَارَقَ مَالِكٌ أَبَا حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالِكًا قَالَ : يُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ، وَلَا يَتْبَعُهُ طَلَاقٌ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَكُونُ الطُّهْرُ تَالِيًا لِحَيْضٍ وَقَعَ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ » .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ طَلَاقٍ ، كَانَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ . وَإِنَّمَا رَاعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّمَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْعَدَدَ ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، وَهَذَا يَدْفَعُ الثَّلَاثَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : «أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا ؟ قَالَ لَهُ : حَرُمَتْ عَلَيْك ، وَبَانَتْ مِنْك بِمَعْصِيَةٍ » .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ سَوَاءٌ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : وَلَوْلَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : «لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا » . وَهَذَا يُبْطِلُ دُخُولَ الثَّلَاثِ تَحْتَ الْآيَةِ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ نَمَطٌ بَدِيعٌ لَهُمْ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ كَمَا قَالُوا ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَهَا كَمَا قُلْنَا وَبَيَانُهُ التَّامُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْمَسَائِلِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ : إنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِنَصِّهِ وَمَعْنَاهُ ، أَمَّا نَصُّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ . وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ من طَلَاقِ الْحَائِضِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَبِالْحَيْضِ التَّالِي لَهُ .
المسألة السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } :
مَعْنَاهُ احْفَظُوهَا ؛ تَقْدِيرُهُ احْفَظُوا الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ ، حَتَّى إذَا انْفَصَلَ الْمَشْرُوطُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ بِالْأَطْهَارِ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضِ . وَيُؤَكِّدُهُ وَيُفَسِّرُهُ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ . وَقُبُلُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ لُغَةً وَحَقِيقَةً ، بِخِلَافِ اسْتِقْبَالِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَهُ .
المسألة الثَّامِنَةُ : مَنْ الْمُخَاطَبُ بِأَمْرِ الْإِحْصَاءِ ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا أَنَّهُمْ الْأَزْوَاجُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الزَّوْجَاتُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَزْوَاجُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا من { طَلَّقْتُمْ } { وَأَحْصُوا } وَ{ لَا تُخْرِجُوهُنَّ } عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى الْأَزْوَاجِ ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَاتِ دَاخِلَةٌ فِيهِ بِالْإِلْحَاقِ بِالزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُحْصِي لِيُرَاجِعَ ، وَيُنْفِقَ أَوْ يَقْطَعَ ، وَلِيُسْكِنَ أَوْ يُخْرِجَ ، وَلِيُلْحِقَ نَسَبَهُ أَوْ يَقْطَعَ . وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَتَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ دُونَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِحْصَاءِ لِلْعِدَّةِ لِلْفَتْوَى عَلَيْهَا وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا ؛ وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْإِحْصَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
المسألة التَّاسِعَةُ : فِيمَا لَا يَتِمُّ الْإِحْصَاءُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْعِدَّةِ ، وَمَحِلِّهَا ، وَأَنْوَاعِهَا : فَأَمَّا أَسْبَابُهَا فَأَرْبَعَةٌ : وَهِيَ الطَّلَاقُ ، وَالْفَسْخُ ، وَالْوَفَاةُ ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ . [ وَالْمِلْكُ ] وَالْوَفَاةُ مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ ، وَالْفَسْخُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، أَوْ هُوَ هُوَ .
وَالِاسْتِبْرَاءُ مَذْكُورٌ فِي السُّنَّةِ ، وَلَيْسَ بِعِدَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَسُمِّيَتْ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ عِدَّةً لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ذَاتُ عَدَدٍ تُعْتَبَرُ بِحِلٍّ وَتَحْرِيمٍ .
وَأَمَّا مَحِلُّهَا فَهِيَ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ .
وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَهِيَ أَرْبَعَةٌ : ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . وَوَضْعُ الْحَمْلِ ، كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . وَسَنَةٌ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ ، فَهَذِهِ جُمْلَتُهَا ، وَفِيهَا تَفَاصِيلُ عَظِيمَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ وَتَعَارُضِهَا ، وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِ النِّسَاءِ ، وَالتَّدَخُّلُ الطَّارِئُ عَلَيْهَا ، وَالْعَوَارِضُ اللَّاحِقَةُ لَهَا ، بَيَانُهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ . وَمَحْصُولُهَا اللَّائِقُ بِهَذَا الْفَنِّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْمُعْتَادَةُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ حَيْضُهَا لِعُذْرٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الصَّغِيرَةُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْآيِسَةُ .
فَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ ؛ وَتَحِلُّ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَطْهَارَ هِيَ الْأَقْرَاءُ ، وَقَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثَةً .
وَأَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا لِمَرَضٍ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَأَصْبَغُ : تَعْتَدُّ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ ثَلَاثَةً . وَقَالَ أَشْهَبُ : هِيَ كَالْمُرْضِعِ بَعْدَ الْفِطَامِ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالسَّنَةِ ، وَقَدْ طَلَّقَ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَكَثَتْ سَنَةً لَا تَحِيضُ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ ، ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ ، فَخَافَ أَنْ تَرِثَهُ إنْ مَاتَ فَخَاصَمَهَا إلَى عُثْمَانَ ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ ، فَقَالَا : نَرَى أَنْ تَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من الْقَوَاعِدِ ، وَلَا من الصِّغَارِ ؛ فَمَاتَ حِبَّانُ ، فَوَرِثَتْهُ ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ . وَلَوْ تَأَخَّرَ الْحَيْضُ لِغَيْرِ مَرَضٍ وَلَا رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً لَا حَيْضَ فِيهَا : تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً ؛ فَتَحِلُّ مَا لَمْ تَرْتَبْ بِحَمْلٍ ، فَإِنْ ارْتَابَتْ بِحَمْلٍ أَقَامَتْ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ أَوْ خَمْسَةً أَو سَبْعَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُلَمَائِنَا . وَمَشْهُورهَا خَمْسَةُ أَعْوَامٍ ؛ فَإِنْ تَجَاوَزَتْهَا حَلَّتْ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهَا الرِّيبَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ جَازَ أَنْ يَبْقَى عَشْرَةً وَأَكْثَرَ من ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَأَمَّا الَّتِي جُهِلَ حَيْضُهَا بِالِاسْتِحَاضَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : تَعْتَدُّ سَنَةً ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : تَعْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ تِسْعَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ : عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ من الْقَرَوِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَأَمَّا الْمُرْتَابَةُ فَقَاسَهَا قَوْمٌ عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَبْقَى أَبَدًا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَيْفَمَا كَانَتْ حُرَّةً ، أَوْ أَمَةً ؛ مُسْلِمَةً ، أَوْ كِتَابِيَّةً فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنْ كَانَتْ أَمَةً فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ . وَقَالَ آخَرُونَ : شَهْرَانِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ تَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَالثَّانِيَةَ تَعَبُّدٌ ؛ فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ قُرْأَيْنِ عَلَى النِّصْفِ من الْحُرَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ مُجَرَّدًا . وَأَمَّا الْأَشْهُرُ فَإِنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِأَجْلِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْوَلَدَ ، وَهَذَا تَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ . وَيُعَارِضُهُ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ عِنْدَهُمْ شَهْرَانِ ، وَخَمْسُ لَيَالٍ ، وَأَجَلُ الْإِيلَاءِ شَهْرَانِ ، وَأَجَلُ الْعُنَّةِ نِصْفُ عَامٍ . وَالْأَحْكَامُ مُتَعَارِضَةٌ .
وَأَمَّا الْآيِسَةُ فَهِيَ مِثْلُهَا ، وَإِذَا أَشْكَلَ حَالُ الْيَائِسَةِ كَالصَّغِيرَةِ لِقُرْبِ السِّنِينَ وَغَيْرِهِمَا من الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِالدَّمِ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ مَعَ الْأَشْهُرِ فَتَذْهَبَ بِنَفْسِهَا إلَى زَوَالِ الرِّيبَةِ .
المسألة الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ }
جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ السُّكْنَى فَرْضًا وَاجِبًا وَحَقًّا لَازِمًا هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسْقِطَهُ عَنْ الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْمَذَاهِبِ .
قَالَ مَالِكٌ : لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ السُّكْنَى ، كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا أَوْ ثَلَاثًا .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا سُكْنَى إلَّا لِلرَّجْعِيَّةِ . [ وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَهَا أَنْ تَتْرُكَ السُّكْنَى ، فَجَعَلَهُ حَقًّا لَهَا ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ] لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } . وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَهُ لِغَيْرِهَا من دَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَذَكَرْنَا التَّحْقِيقَ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ فَيَرُدُّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وَهَذَا نَصٌّ .
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { مِنْ بُيُوتِهِنَّ } إضَافَةُ إسْكَانٍ ، وَلَيْسَتْ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ من آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ .
وَقَوْلُهُ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى الْأَزْوَاجِ ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ : { وَلَا يَخْرُجْنَ } أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ .
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : ذَكَرَ اللَّهُ الْإِخْرَاجَ وَالْخُرُوجَ عَامًّا مُطْلَقًا ، وَلَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ لِخَالَتِهِ فِي الْخُرُوجِ فِي جِذَاذِ نَخْلِهَا » . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعًا ، «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَكَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ : لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى » .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَفِي مُسْلِمٍ : «قَالَتْ فَاطِمَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ قَالَ : اُخْرُجِي » .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ : كَانَ فِي مَكَان وَحِشٍ ، فَخِيفَ عَلَيْهَا . وَقَالَ مَرْوَانُ : حَيْثُ عِيبَ عَلَيْهِ نَقْلُ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ طَلَّقَهَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنُ الْعَاصِ . وَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ إنْ كَانَ بِك الشَّرُّ فَحَسْبُك مَا بَيْنَ هَذَيْنِ من الشَّرِّ .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ . فَأَنْكَرَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ؛ لَكِنَّ عُمَرُ رَدَّهُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ، وَرَدَّتْهُ عَائِشَةُ بِعِلَّةِ تَوَحُّشِ مَكَانِهَا ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ؛ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجُ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّجْعِيَّةِ ، وَصَدَقَتْ . وَهَكَذَا هُوَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْمَبْتُوتَةِ ثَبَتَ من الْآيَةِ الْأُخْرَى ؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ } حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجَاءَ من هَذَا أَنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ لِلْمُعْتَدَّةِ شَرْعٌ لَازِمٌ ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَدَثِ وَالْبَذَاءِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ وَخَوْفِ الْعَوْرَةِ من السَّكَنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِي صِفَةِ الْخُرُوجِ :
أَمَّا الْخُرُوجُ لِخَوْفِ الْبَذَاءِ وَالتَّوَحُّشِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ ؛ فَيَكُونُ انْتِقَالًا مَحْضًا .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ لِلتَّصَرُّفِ لِلْحَاجَاتِ فَيَكُونُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ لَهَا إلَى الْبَيْتِ عَنْ مَنْزِلِهَا ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْإِسْفَارِ وَتَرْجِعُ قَبْلَ الْإِغْطَاشِ وَتُمَكَّنُ فَحْمَةُ اللَّيْلِ ؛ قَالَ مَالِكٌ : وَلَا تَفْعَلُ ذَلِكَ دَائِمًا . وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِيهِ إنْ احْتَاجَتْ إلَيْهِ ، إنَّمَا يَكُونُ خُرُوجُهَا ، فِي الْعِدَّةِ كَخُرُوجِهَا فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فَرْعُ النِّكَاحِ ، لَكِنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ الْخُرُوجُ فِيهِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ ، وَيَقِفُ فِي الْعِدَّةِ عَلَى إذْنِ اللَّهِ ؛ وَإِذْنُ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لَهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وَكَانَ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا كَانَتْ السُّكْنَى حَقًّا عَلَيْهِنَّ لِلَّهِ ، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ حَقًّا عَلَى الْأَزْوَاجِ ، فَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ من أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ ، وَالسُّكْنَى من حُقُوقِ الْعِدَّةِ .
المسألة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزِّنَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْبَذَاءُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ . وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخُرُوجُ من الْبَيْتِ ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُمَرَ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُرُوجُ لِلزِّنَا فَلَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخُرُوجَ هُوَ خُرُوجُ الْقَتْلِ وَالْإِعْدَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَثْنًى فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْبَذَاءُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَوَهْمٌ ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ وَنَحْوَهَا من الْمَعَاصِي لَا تُبِيحُ الْإِخْرَاجَ وَلَا الْخُرُوجَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ . وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ شَرْعًا إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ تَعَدِّيًا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ السُّكْنَى ، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ وَالْإِخْرَاجَ تَحْرِيمًا عَامًّا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ إيضَاحَ الْخُرُوجِ الْمَمْنُوعِ من الْجَائِزِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } :
قَالَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ : أَرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا الرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ ، وَمَعْنَى الْقَوْلِ : التَّحْرِيضُ عَلَى طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الثَّلَاث ؛ فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ عَلَى الْفِرَاقِ ، وَالرَّغْبَةِ فِي الِارْتِجَاعِ ، وَلَا يَجِدُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّجْعَةِ سَبِيلًا . وَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فِيهِ الْأَمْرُ بِالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ [ فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ بِالْمَرْأَةِ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فِيهِ ] النَّهْيُ عَنْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ ، لِئَلَّا تَفُوتَ الرَّجْعَةُ عِنْدَمَا يَحْدُثُ لَهُ من الرَّغْبَةِ .