التّفسير
عملٌ صالح يفتح لموسى أبواب الخير:
نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة ،وهي قضيّة ورود موسى( عليه السلام ) إلى مدينة مدين .
هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق ،الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً ،ولم يكن له بها معرفة ،وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً ،وقيل: إنّه قطع الطريق في ثمانية أيّام ،حتى لقي ما لقي من النصب والتعب ،وورمت قدماه من كثرة المشي .
وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه ،وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة .
وبدأت معالم «مدين » تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً ،وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة ،ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم .
يقول القرآن في هذا الصدد: ( فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان ){[3052]} .
فحركه هذا المشهد ...حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام ،ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم ..بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم ،وعليهم آثار العفّة والشرف ،جاء إليهما موسى( عليه السلام )ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و ( قال ما خطبكما ){[3053]} .
وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام ؟!
لم يرق لموسى( عليه السلام ) أن يرى هذا الظلم ،وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين ،وهو يريد أن يدخل مدينة مدين ،فلم يتحمل ذلك كله ،فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه ،فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم !..
فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة أغنامهم: ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ){[3054]} .
ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب ؟ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه ،أضافتا مكملتين كلامهما ( وأبونا شيخ كبير ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام ،وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور .
فتأثر موسى( عليه السلام ) من سماعه حديثهما بشدة .فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم ،ولا هم لهم غير أنفسهم .
/خ25