التّفسير
حزب الله هو المنتصر:
لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة ،والتي شارفت على الانتهاء ،بعد أن استعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون .
ففي آيات بحثنا الحالي سنتطرّق لأهمّ القضايا الواردة في هذه السورة ،والتي تصوّر الخاتمة بأفضل صورة ،إذ زفّت البشرى للمؤمنين بانتصار جيش الحقّ على جيش الشيطان ،الوعد الإلهي الكبير هذا إنّما جاء لبعث الأمل في صفوف المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت ضغوط أعداء الإسلام في مكّة ،ولكلّ المؤمنين والمحرومين في كلّ زمان ومكان ،ولكي يكون حافزاً لهم يدفعهم على نفض غبار اليأس عنهم ،والاستعداد لجهاد ومقاومة جيوش الباطل ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين .إنّهم لهم المنصورون ) .
( وإنّ جندنا لهم الغالبون ) ،إنّها لعبارة واضحة وصريحة ،وإنّه لوعد يقوّي الروح ويبعث على الأمل .
نعم ،فانتصار جيوش الحقّ على الباطل ،وغلبة جند الله ،وتقديم الله سبحانه وتعالى العون لعباده المرسلين والمخلصين ،هي وعود مسلّم بها وسنن قطعيّة ،وذلك ما أكّدته الآية المذكورة أعلاه بعنوان ( سبقت كلمتنا ) أي إنّ هذا الوعد وهذه السنّة كانت موجودة منذ البداية .
نظائر كثيرة لهذا الموضوع وردت في آيات عديدة أخرى من آيات القرآن المجيد ،إذ جاء في الآية ( 47 ) من سورة الروم ( وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين ) .
وفي الآية ( 40 ) من سورة الحجّ ( ولينصرنّ الله من ينصره ) .
وفي الآية ( 51 ) من سورة غافر ( إنّنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) .
وأخيراً في الآية ( 21 ) من سورة المجادلة ( كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي ) .
وبديهي أنّ الله قادر على كلّ شيء ،وليس بمخلف للوعود ،ولم يكن يوماً ما ليخلف وعده ،وقادر على أن يفي بهذا الوعد الكبير ،كما أنزل في السابق نصره على المؤمنين به .
الوعد الإلهي من أهمّ الأمور التي ينتظرها السائرون في طريق الحقّ باشتياق ،حيث يستمدّون منه القوى الروحية والمعنوية ،ويسترفدون منه نشاطاً جديداً كلّما أحسّوا بالكلل ،فتسري دماء جديدة في شرايينهم .
سؤال مهمّ:
وهنا يطرح السؤال التالي ،وهو: إن كانت مشيئة الباري عز وجل وإرادته تقضي بتقديم يد العون للأنبياء ونصرة المؤمنين ،فلِمَ نشاهد استشهاد الأنبياء على طول تأريخ الحوادث البشرية ،وانهزام المؤمنين في بعض الأحيان ؟فإن كانت هذه سنّة إلهيّة لا تقبل الخطأ ،فلِمَ هذه الاستثناءات ؟
ونجيب على هذا السؤال بالقول:
أوّلا: إنّ الانتصار له معان واسعة ،ولا يعطي في كلّ الأحيان معنى الانتصار الظاهري والجسماني على العدو ،فأحياناً يعني انتصار المبدأ ،وهذا هو أهمّ انتصار ،فلو فرضنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد استشهد في إحدى الغزوات ،وشريعته عمّت العالم كلّه ،فهل يمكن أن نعبّر عن هذه الشهادة بالهزيمة .
وهناك مثال أوضح وهو الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه الكرام حيث استشهدوا على أرض كربلاء ،وكان هدفهم العمل على فضح بني اُميّة ،الذين ادّعوا أنّهم خلفاء الرّسول ،وكانوا في حقيقة الأمر يعملون ويسعون إلى إعادة المجتمع الإسلامي إلى عصر الجاهلية ،وقد تحقّق هذا الهدف الكبير ،وأدّى استشهادهم إلى توعية المسلمين إزاء خطر بني اُميّة وإنقاذ الإسلام من خطر السقوط والضياع ،فهل يمكن هنا القول بأنّ الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه الكرام خسروا المعركة في كربلاء ؟
المهمّ هنا أنّ الأنبياء وجنود اللهأي المؤمنونتمكّنوا من نشر أهدافهم في الدنيا واتّبعهم اُناس كثيرون ،وما زالوا يواصلون نشر مبادئهم وأفكارهم رغم الجهود المستمرّة والمنسقّة لأعداء الحقّ ضدّهم .
وهناك نوع آخر من الانتصار ،وهو الانتصار المرحلي على العدو ،والذي قد يتحقّق بعد قرون من بدء الصراع ،فأحياناً يدخل جيل معركة ما ولا يحقّق فيها أي انتصار ،فتأتي الأجيال من بعده وتواصل القتال فتنتصر ،كالانتصار الذي حقّقه المسلمون في النهاية على الصليبيين في المعارك التي دامت قرابة القرنين ،وهذا النصر يحسب لجميع المسلمين .
ثانياً: يجب أن لا ننسى أنّ وعد الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين وعد مشروط وليس بمطلق ،وأنّ الكثير من الأخطاء مصدرها عدم التوجّه إلى هذه الحقيقة ،وكلمات ( عبادنا ) و ( جندنا ) التي وردت في آيات بحثنا ،وغيرها من العبارات والكلمات المشابهة في هذا المجال في القرآن الكريم كعبارة ( حزب الله ) و ( الذين جاهدوا فينا ) و ( لينصرنّ الله من ينصره ) وأمثالها ،توضّح بسهولة شروط النصر .
نحن لا نريد أن نكون مؤمنين ولا مجاهدين ولا جنوداً مخلصين ،ونريد أن ننتصر على أعداء الحقّ والعدالة ونحن على هذه الحالة !
نحن نريد أن نتقدّم إلى الإمام في مسيرنا إلى الله ولكن بأفكار شيطانية ،ثمّ نعجب من انتصار الأعداء علينا ،فهل وفينا نحن بوعدنا حتّى نطلب من الله سبحانه وتعالى الوفاء بوعوده .
في معركة اُحد وعد الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين بالنصر ،وقد انتصروا فعلا في المرحلة الأولى من المعركة ،إلاّ أنّ مخالفة البعض لأوامر الرّسول وتركهم لمواقعهم لهثاً وراء الغنائم ،وسعي البعض الآخر لبثّ الفُرقة والنفاق في صفوف المقاتلين ،أدّى بهم إلى الفشل في الحفاظ على النصر الذي حقّقوه في المرحلة الأولى ،وهذا ما أدّى إلى خسرانهم المعركة في نهاية الأمر .
وبعد انتهاء المعركة جاءت مجموعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وخاطبته بلهجة خاصّة: ماذا عن الوعد بالنصر والغلبة ،فأجابهم القرآن الكريم بصورة لطيفة يمكنها أن تكون شاهداً لحديثنا ،وهي قوله تعالى في سورة آل عمران الآية ( 152 ): ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ) .
عبارات ( فشلتم ) و ( تنازعتم ) و ( عصيتم ) التي وردت في الآية المذكورة أعلاه ،وضّحت بصورة جيّدة أنّ المسلمين في يوم اُحد تخلّوا عن شروط النصر الإلهي ،لذا فشلوا في الوصول إلى أهدافهم .
نعم ،فالباري عز وجل لم يعد كلّ من يدّعي الإسلام وانّه من جند الله وحزب الله بأن ينصره دائماً على أعدائه .الوعد الإلهي مقطوع لمن يرجو من أعماق قلبه وروحه رضى الله سبحانه وتعالى ،ويسير في النهج الذي وضعه الله ،ويتحلّى بالتقوى والأمانة .
ولقد تقدّم نظير لهذا السؤال فيما يخصّ ( الدعاء ) و ( الوعد الإلهي بالاستجابة ) وتطرّقنا للإجابة عليه فيما مضى .
ولمواساة الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين ،وللتأكيد على أنّ النصر النهائي سيكون حليفهم ،وفي نفس الوقت لتهديد المشركين ،جاءت الآية التالية لتقول: ( فتولّ عنهم حتّى حين ) .