لذا فإنّ الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة: ما ينتظر هؤلاء من جرّاء أعمالهم إلاّ صيحة سماوية واحدة تقضي عليهم وتهلكهم وما لهم من رجوع ،( وما ينظر هؤلاء إلاّ صيحة واحدة ما لها من فواق ) .
يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام الماضية ،كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالا عنيفاً يدمّر حياتهم وينهيها .
وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة ،التي عبّر عنها القرآن الكريم ب ( النفخة الاُولى في الصور ) .
اعترض بعض المفسّرين على التّفسير الأوّل ،واعتبروه مخالفاً لما جاء في الآية ( 33 ) من سورة الأنفال التي تقول: ( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) .
أمّا بالنظر إلى أنّ المشركين كانوا لا يعتقدون برسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا يؤمنون برسالته ،بالإضافة إلى كون أعمالهم تشابه أعمال الأقوام السابقة التي اُهلكت بالصيحات السماوية ،لذا فعليهم أن يتوقّعوا مثل ذلك المصير وفي أيّ لحظة ،لأنّ الآية تتحدّث عن ( الانتظار ) .
كما اعترض آخرون على التّفسير الثاني بأنّ مشركي مكّة لن يبقوا أحياء حتّى آخر الزمان كي تشملهم الصيحة .
ولكن هذا الاعتراض غير وارد ،لنفس السبب الذي ذكرناه من قبل ،وهو أنّهلا أحد من الناس يعلم لحظة نهاية العالم وقيام الساعة ،ولذا فعلى المشركين أن يترقّبوا لحظة بلحظة تلك الصيحة .
على أيّة حال ،فكأنّ أولئك الجهلة ينتظرون العذاب الإلهي جزاء تكذيبهم وإنكارهم لآيات الله سبحانه وتعالى ،وتقوّلهم على الرّسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلاملا يليق ،وإصرارهم على عبادة الأصنام ،والظلم وإشاعة الفساد ،العذاب الذي سيحرق حصيلة أعمارهم ،أو الصيحة التي تنهي كلّ شيء في العالم ،وتؤدّي بأولئك إلى طريق لا رجعة فيه .
«فواق » على وزن ( رواق ) وقد ذكر أهل اللغة والتّفسير عدّة معان لها منها: أنّها الفاصل بين كلّ رضعتين ،إذ بعد فترة معيّنة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود فينزل إليه اللبن من جديد .
وقال البعض: إنّها الفاصل بين فتح الأصابع عن الثدي بعد حلبه وإعادتها لحلبه مرّة أخرى .وبما أنّ الثدي يستريح قليلا بعد كلّ حلبة ،فكلمة ( فواق ) يمكن أن تعطي معنى الهدوء والراحة .وبما أنّ هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرّة أخرى إلى الثدي فإنّ هذه الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع ،كما يقال للمريض الذي تتحسّن حالته الصحيّة بأن ( أفاق ) وذلك لأنّه استعاد صحّته وسلامته ،كما يقال لحالة السكران الذي يصحو من سكرته وللمجنون عندما يستعيد عقله «إفاقة » عند عودتهما إلى الشعور والإدراك والعقل .
على أيّة حال ،فالصيحة الرهيبة ليس بعدها رجوع ولا راحة ولا هدوءولا إفاقة ،ففور شروعها تغلق كلّ الأبواب أمام الإنسان ،ولا ينفع الندم حينئذ ،إذ لا مجال لإصلاح الماضي ،ولا مجيب لصراخهم .