قوله تعالى:{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الحرام ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( 37 ) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( 38 )} مفعول ( أسكنت ) محذوف وتقديره: أسكنت ناسا من ذريتي بواد{[2410]} .كرر إبراهيم النداء الخاشع المتذلل إلى ربه رغبة في الاستجابة وميلا للالتجاء إلى جناب الله العظيم فقال: ( إني أسكنت من ذريتي ) من السكنى ،ويعنى اتخاذ المأوى للإقامة فيه ( من ذريتي ) أي بعض ذريتي .والمراد بهم هنا إسماعيل وأمه هاجر ؛فقد أسكنهم إبراهيم ( بواد غير ذي زرع ) وهو وادي مكة ؛إذ لم يكن فيه عندئذ زرع ولا نبات لانعدام الماء ( عند بيتك المحرم ) أضاف البيت إلى نفسه سبحانه ؛لأنه مالكه وليس من مالك له غيره .ووصفه بالمحرم ؛لأنه مُنع منه الطوفان إذ حرم عليه ،وقيل: لأنه لم يزل عزيزا منيعا تهابه الجبابرة فلا يمسونه بسوء .وقيل: لأنه حُرم فيه ما لم يحرم في غيره من البيوت كالجماع والصيد والقتل .وسماه بيتا باعتبار ما كان ؛فإنه كان مبنيا من قبل .وقيل: باعتبار ما سيكون ؛لأنه كان من المعلوم أنه سوف يبنيه .
قوله: ( ربنا ليقيموا الصلاة ) أي أسكنتهم بهذا الوادي البلقع القفر الذي يخلوا من أسباب الرزق والمعاش ( ليقيموا الصلاة ) وذلك عند بيتك المحرم البيت المبارك الذي شرفه الله تشريفا وفضله على سائر البيوت في الأرض .وقد ذكر جنس الصلاة من بين العبادات والطاعات تعظيما لشأن الصلاة خاصة ،وإظهارا لأهميتها المميزة البالغة التي تعلو على كل الشعائر والطاعات ،وتفوق سائر العبادات جلالة وأهمية .وفي قوله: ( ليقيموا ) بضمير الجمع ،ما يدل على أن الله قد أعلم إبراهيم بأن ولده إسماعيل سيكون له هنالك عقب ونسل يقيمون الصلاة في هذا المكان المبارك المقدس .
قوله: ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) الأفئدة القلوب ،جمع فؤاد .وهو من التفؤّد بوزن التفعل ؛أي التوقد والتحرق .فأدتُ اللحم أي شويته .وافتأدوا أي أوقدوا نارا .ولحم مفتئد أي مشوي{[2411]} وقوله: ( من ) للتبعيض ؛أي اجعل أفئدة من أفئدة الناس تحنّ وتهفو إليهم وتسرع شوقا وودادا إليهم .
كذلك كان تقدير الله ،وهو أن يدعو إبراهيم ربه أن يجعل فريقا من الناس- وليس كل الناس- تهفو قلوبهم وتميل شوقا لمكة .وقيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم والناس جميعا سواء فيهم اليهود والنصارى .قوله: ( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) وهذه مسألة أخرى من إبراهيم يتضرع بها إلى ربه أن يرزق ذريته في مكة من خيرات البلاد ،وأرزاق يسوقها الناس والعباد ،كأن تستجلب إليهم هذه الثمرات من أقطار الأرض الواسعة المترامية .وقد تحقق ذلك بعون الله وتقديره ؛إذ استجاب دعوة خليله إبراهيم عليه السلام فأسبغ على مكة ،البد البلقع القفر من صنوف الطعام والثمرات والخيرات ما لم يكن في الحسبان لولا فضل العاطي الموافق المنان .
قوله: ( لعلهم يشكرون ) أي لعلهم يشكرونك على ما أسبغت عليهم من جزيل النعم .