قوله تعالى:{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ( 21 )} .
أي كما أنمنا أصحاب الكهف وبعثناهم من رقدتهم ،أطلعنا عليهم الناس ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ) فقد كان الناس حينئذ في شك من أمر الساعة ؛فهم بين مصدق وجاحد .وقال بعضهم: تبعث الأرواح دون الأجساد .وقال آخرون: تبعث الأرواح والأجساد مجتمعة ،فبعث الله أهل الكهف دلالة وآية على حقيقة البعث .وقد ذكر أن الذي ذهب إلى المدينة ليشتري لهم الطعام قد أذهلته الحيرة وغشيه العجب مما رأى ،إذ رأى أن الناس جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة قد تغيروا ،وتغيرت كذلك معالم البلاد .فلم يعرف شيئا مما يعرفه من معالم البلد ،ولم يعرف أحدا من الناس .ثم عمد إلى بائع طعام فدفع إليه ما معه من دراهم ليبيعه بها طعاما .فلما رآها البائع أنكرها ثم دفعها إلى جاره ،فجعلوا يتداولونها بينهم فسألوه عن أمره ،فلما حدثهم بخبره قاموا معه إلى الكهف ومعهم الملك وكان مسلما ،فلما دخل عليهم فرحوا به وسلموا عليه ثم عادوا إلى مضاجعهم فأماتهم الله .
لقد كان خبرهم آية ظاهرة تشهد بأن وعد الله حق ،وهو أن يبعث الناس من قبورهم وأن الساعة آتية لا ريب فيها .وهو قوله: ( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) ( إذ ) ظرف متعلق بالفعل ( أعثرنا ) أي أعثرنا أو علمنا هؤلاء المختلفين في حقيقة البعث وقيام الساعة فقد تنازعوا في أمرها فمن مثبت لها ومن مكذب .فجعل الله خبر أهل الكهف حجة ساطعة للمصدقين بقيام ساعة وخبر البعث .وقيل: تنازعوا فيما يفعلونه بهم بعد الاطلاع عليهم .وهو قوله: ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ) قالوا حين توفاهم الله: ( ابنوا عليهم بنيانا ) يسندّ به باب كهفهم فلا يتطرق إليهم الناس .
قوله: ( ربهم أعلم بهم ) ذلك من قول المتنازعين في أمرهم ؛إذ قالوا: الله أعلم بحقيقة هؤلاء الفتية من حيث أنسابهم وعددهم ومدة مكثهم .
قوله: ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ) المراد بهم المسلمون ومعهم الملك ؛إذ كان مسلما .فهم بذلك الغالبون على أمر من عداهم من الناس .وأولئك قد استقر رأيهم أن يبنوا مسجدا على باب الكهف فيصلي فيه المسلمون{[2790]} .
على أن بناء المساجد على القبور والصلاة فيها مما حرمه الشرع ؛فإن اتخاذ المسجد فوق القبر مدعاة لتعظيم القبر وصاحبه .أو هو سبب يسوق المشاعر والأذهان إلى تقديس القبور رويدا رويدا .فما تمرّ الأيام والسنون حتى يصير صاحب القبر مثار تعظيم بالغ كالذي حصل للأصنام ؛إذ عُبدت من دون الله بعد أن كانت حجارة .فمثل هذا البناء حرام سدا للذريعة .وفي النهي عن البناء على القبور أخرج النسائي عن عائشة أن النبي ( ص ) قال:"لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "وأخرج النسائي كذلك عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
ويكره تجصيص القبور .وتجصيصها يعني تبيضها بالجص وهو الجبس ،أو الجير .ويكره أن يكتب اسم الميت على القبر .وهو قول أكثر أهل العلم .بخلاف أهل الظاهر ؛إذ قالوا: لو نقش اسمه في حجر لم يكره{[2791]} .ودليل الكراهة ما أخرجه مسلم عن جابر قال:"نهى رسول الله ( ص ) أن يجصص القبر ،وأن يقعد عليه ،وأن يبنى عليه "وزاد سليمان بن موسى:"أو يكتب عليه "ولأن ذلك من باب الزينة ولا حاجة بالميت إليها .
ولا يجوز رفع القبر فوق الأرض إلا قدر شبر واحد ليعلم الناس أنه قبر فيترحموا عليه ولا يمشوا فوقه .وفي ذلك أخرج أبو داود ومسلم عن أبي هياج الأسدي قال: بعثني علي قال لي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ص ):"أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ،ولا تمثالا إلا طمسته ".
على أن تسنيم القبر أفضل من تسطيحه ،أي تربيعه .وهو قول الجمهور .ودليل ذلك ما رواه البيهقي عن سفيان بن التمار قال:"رأيت قبر النبي ( ص ) مسنما "وذهب الشافعية إلى أن التسطيح أفضل ؛لأن النبي ( ص ) سطّح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة{[2792]} .