نموذج حيّ لوعد الله
{وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} كيف حدث هذا ؟هل انكشف أمرهم من خلال هذا الشخص الذي أرسلوه إلى المدينة ليأتيهم بالطعام ؟ربما تذكر بعض الروايات ،أن أمره انكشف من خلال النقود التي استغربها أهل المدينة ،حتى خيل إليهم أنها جزءٌ من كنز اكتشفه هذا الرجل ،أو لأن هذا الرجل بدا أمامهم غريباً في ملابسه ولغته ،أو لأنه استغرب هذا التغيير فتساءل ،فأثار سؤاله الاستغراب ،فقالوا له: من أنت ،ومن أين جئت ؟فأخبرهم ،فاجتمع الناس عليهم بعد أن قادهم إلى موضع الكهف ،فأماتهم الله بعد أن سألوه ،أو أرجعهم إلى ما كانوا عليه .
وهكذا عرف الناس أمرهم ،واستذكروا القصص التي كانوا يسمعونها من آبائهم ،{لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا} هذه صورةٌ حيّةٌ عن تجربةٍ قريبةٍ من أجواء فكرة البعث في الآخرة ،فقد بقي هؤلاء في حالة موتٍ مجمّدٍ ،يحمل بعض ملامح الحياة في حركة الجسد ،وبعض ملامح الموت في فقدان الوعي والانفصال عن كل شيء في الواقع ،ولكنها لا تمثل حالة الغيبوبة للإنسان الحي ،ولا حالة السكون في الجماد .وها هم ينتفضون بعد ثلاثة قرون ونيّف ،ليواجهوا الحياة كأقوى ما تكون ،وكأعمق ما تتحرك في الكائن الحيّ .إنه النموذج الحيّ الذي يعطي الفكرة معناها الواقعي ،ويوحي بصدق الإيمان في العقيدة ،فيعلم الناس أن وعد الله ،الذي أوحى به لعباده من خلال رسله ،هو الحق الذي لا ريب فيه ،وأن الساعة التي يقف فيها الناس للحساب أمام الله ،هي الحقيقة التي لا تقبل الجدل ،لأن الله هو الذي وعد ،وهو أصدق الواعدين ،وهو الذي أخبر ،وهو المحيط بكل شيء ،فكيف يشك الإنسان في ذلك أو يرتاب ؟!وهذا النموذج يجسِّد الفكرة في الواقع .
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} بعد أن ماتوا ،وبدأ التفكير في مراسيم التكريم التي يريدون القيام بها تجاه هؤلاء المؤمنين ،الذين فروا بدينهم فأكرمهم الله بأن جعلهم مظهراً لقدرته .{فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} ليكون مظهراً للعظمة ورمزاً للاحترام ،فيكون موقعاً مميّزاً يقصده الناس للزيارة وللفرجة ،تماماً كما هي المعالم السياحية للعظماء في الأمة .{رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} في ما يسرّون وما يخفون ،فليس لنا منهم إلا هذه الأجواء الاحتفالية التكريمية ،في علاقة الناس بالذين يعيشون الأسرار الخفية في الحياة .وهؤلاء هم الذين لا يرتبطون بالمسألة من موقع الاهتمام بها كظاهرة روحيّة غيبيّة في وحيها للمؤمنين بالرجوع إلى الله والاقتداء بهؤلاء المؤمنين ،بل يرتبطون بها كحالةٍ اجتماعية مثيرةٍ توحي بالغرابة والعظمة .
بناء المسجد عليهم للعبرة
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ} واستطاعوا أن يجعلوا الموقف لصالح قرارهم ،وهم الذين عاشوا معنى الإيمان في شخصية هؤلاء ،وانفتحوا على القيمة الروحية المتمثلة في تاريخ مواجهتهم للسلطات الكافرة في زمانهم وتحدِّيهم لمفاهيمها ،وفرارهم أخيراً بدينهم ،حتى لا يفقدوه أمام الضغوط الصعبة ...فأرادوا أن يستلهموا ذلك في عملية تذكّر ،وفي حالة اعتبار ،وفي موقف يقظة ،ليعيشوا مع هذه الروح ومع حركة القيمة ،وفي رحاب ذلك التاريخ ،لئلا تكون مدافن هؤلاء مجرّد موقع للسياحة واللّهو والزّهو التاريخي للأمة ،بل لتكون نقطة انطلاق لارتباط الحاضر والمستقبلفي حركة الإيمانبالماضي الذي يحتضن الإيمان كقوّة في الفكر والروح والموقف ...وهكذا قرروا ماذا يصنعون ،فقالوا:{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} ليحمل المكان معنى المسجد في استلهام الروح ،من خلال روحيتهم واستذكار الثبات من خلال ثباتهم ،والانفتاح على الله على أساس ما كانوا ينفتحون بحياتهم عليه .وهكذا انطلق تاريخ هؤلاء ليتمثل فيه الناس تاريخ الإيمان ،ومعنى السجود لله والعبادة له .