جدالٌ تافه
ومرّ التاريخ ،وبدأ الناس يتناقشون في أمور لا فائدة منها ولا غنى ،بينما كان من المفترض أن يكون نقاشهم في دراسة تجربتهم ،وموقفهم ،وطبيعة الدرس الذي يمكن استفادته للمستقبل ...وهذا هو ما يفعله التخلُّف في حياة الناس ،عندما يتجمدون في مسألة المعرفة على الأمور التافهة التي لا تمثل شيئاً في مصلحة الإنسان في ما يتصل بحياته العملية ،فيغرقون في الأمور التجريدية ،أو في الخلافات اللفظية ،أو في القضايا الشكلية ،أو في الأعداد التي لا تعني شيئاً ،أو في الأسماء أو الأنساب التي لا توحي بشيء ،وغير ذلك مما لا ينفع من علمه ولا يضرّ من جهله .وهذا ما يحدثنا القرآن عنه ،كمظهرٍ من مظاهر التخلُّف التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها .
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} وسيقولون الكثير مما قد يعلمون منه القليل ،ويجهلون منه الكثير ،ويريد الله لرسوله ،وللمسلمين من خلاله ،أن يختصروا المسألة بكلمة حاسمة تنهي الخلاف:{قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فلنترك الأمر لله ،في ما يعلمه من خفايا الأشياء التي لا نملك أساساً لمعرفتها ،ولا نجد أيّة فائدة في البحث عنها .{مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} ممن استطاعوا التعرّف على مصادر التاريخ الموثوقة من وحيٍ أو غير ذلك ،{إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} لا تجادل إلا بطريقةٍ سريعةٍ يفرضها الواقع الذي من حولك ،{وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} لأن ذلك لن يحقق لك أيّ شيءٍ في المعرفة الحقيقية النافعة التي يريدها الله للإنسان .
من وحي القصة
وهكذا تنتهي هذه القصة العجيبة ،ليبقى لنا منها الفكرة الموحية التي تواجه المؤمنين المتمرّدين على عقيدة الانحراف في مجتمعهم ،فيرفضونها ويلتزمون خط الاستقامة من خلال الإيمان بالله ،فيواجهون الاضطهاد من القوى المستكبرة في المجتمع ،ويخافون السّقوط أو الانحراف تحت تأثير الضغوط القاسية التي تلامس نقاط ضعفهم بطريقةٍ وبأخرى ،فيخرجون من ساحة التجربة الصعبة ،لينطلقوا إلى موقعٍ آخر يتأملون فيه طبيعة الساحة التي يريدون اكتشافها في مجالات أخرى ،أو يعملون على التشاور حول الوسائل العملية التي يحاولون اتّباعها في سبيل الالتفاف من جديد على ساحتهم الطبيعيّة ،لأن البعد عن مواقع التجربة الصعبة الضاغطة قد يوحي للإنسان ببعض الأفكار الجديدة ،التي لا يلتفت إليها في أجواء الضغط والتوتر .
وبذلك نستطيع أن نأخذ منها الفكرة التي تفرض على الإنسان الالتزام بالعقيدة ،مهما كانت الضغوط كبيرةً وقاسيةً ،كما تفرض عليه الهرب من مواقع الضغط الذي يسقط أمامه ،إلى مواقع أكثر حريةً وانفتاحاً وثباتاً ،ولكن لا ليستغرق في ذاته ،بل ليعيش إيمانه ،ويستعد لجولة جديدة في ساحة الصراع ،من أجل اكتشاف آفاقٍ جديدةٍ ،في مواقع عملٍ جديدٍ .وتلك هي العبرة التي نستفيدها في مواقعنا الصعبة التي نواجه فيها التحدّيات من أجهزة الكفر والضلال الرسمية والمخابراتية ،بالمستوى الذي قد يُسقط التجربة ،فإن بإمكاننا اللجوء إلى كهفٍ معيّنٍ نختبىء داخله من أجل الحصول على فترة التقاط للأنفاس ،أو مرحلة استعدادٍ للوثوب ،أو فرصةٍ للانطلاق في حركةٍ جديدةٍ .
وقد يخيّل لبعض الناس أن ذلك يمثل لوناً من ألوان الهروب ،الذي يمثل الضعف الإنساني بمستوى لا يتناسب مع قوة الإيمان ،في ما يفرضه من ثباتٍ واندفاعٍ وتضحية ،فلا ينسحب من المعركة مهما بلغت الضغوط وكثرت التحديات .
ولكن المسألة ليست بهذه الدرجة من النتائج السلبية في حركة الإيمان في حياة المؤمن ،لأن الله يريد الثبات لعباده ،وذلك لتحقيق قوّة لمواقعهم في الساحة ،ولكن القوّة ليست هي هذا الشكل الانفعالي من الاندفاع ،بل هي هذا اللون من التخطيط الواقعي للأسلوب العملي الذي يرتبط بالموقع المتقدم للفكرة أو للحركة ،وبذلك يكون الثبات متصلاً بنهايات الأمور لا ببداياتها .فقد تنسحب من معركة ،لا لتنهزم منها ،ولكن لتأخذ موقعاً أكثر قدرةً على المواجهة ،أو أوسع حريةً في مجال الحركة ،لتربح المعركة بطريقة أفضل ،فإن هذا يمثل الإصرار على الثبات في الموقف ،أكثر مما يمثله الاندفاع الانفعالي المتهور في ساحة الصراع .