التّفسير
نهاية قصّة أصحاب الكهف:
لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة مِن الرّجال المتشخّصين إلى كلِّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم ،حيث قدَّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس ،أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مَناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إِليه ،ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام .
لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان ،وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إِلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم .
ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء ،وهذا الأمر أصبح بحدِّ ذاته لغزاً للناس ،ونقطة انعطاف في أفكارهم ،وقد يكون هذا الأمروهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطرهو بحدِّ ذاته سبباً ليقظة الناس ومصدراً لوعيهم ،أو لوعي قسم منهم على الأقل .
ولكن في كل الأحوال ،فإِنَّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين .
والآن لنعد إلى الشخص المكلَّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له .
لقد دَخل المدينة ولكنَّهُ فغَر فاه مِن شدّة التعجُّب ،فالشكل العام للبناء قد تغيَّر ،هندام الجميع ولباسهم غريب عليه ،الملابس من طراز جديد ،خرائب الأمس تحولت إلى قصور ،وقصور الأمس تحوَّلت إلى خرائب !
لقد ظنَّللحظة واحدةأنَّهُ لا يزال نائماً ،وأنَّ ما يُشاهده ليس سوى أحلام ،فركَ عينيه ،إِلاَّ أنَّهُ التفت إلى ما يراه ،وهو عين الحقيقة ،وإِن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها .
إِنَّهُ لا يزال يعتقد بأنَّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم ،فلماذا هذا الاختلاف ،وكيف تمَّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد ؟!
ومن جانب آخر كان منظره هو عجيباً للناس وغير مألوف .ملابسهُ ،كلامه ،شكلهُ كل شيء فيه بدا غريباً للناس ،وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إِليه ،لذا قام بعضهم بمُتابعته .
لقد انتهى عجبه عِندما مدَّ يدهُ إلى جيبه لِيُسدِّد مبلغ الطعام الذي اشتراه ،فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى ( 300 ) سنة ،وقد يكون اسم ( دقيانوس ) الملك الجبار مكتوباً عليها ،وعندما طلب منهُ توضيحاً قالَ لهُ بأنَّهُ حصل عليها حديثاً .
وقد عرف الناس تدريجياً مِن خلال سلسلة مِن القرائن أنَّ هذا الشخص هو واحد مِن أفراد المجموعة الذين قرأوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل ( 300 ) سنة ،وأنَّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم ،وهنا أحسَّ الشخص بأنَّهُ وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل .
هذه القضية كانَ لها صدى كالقنبلة في المدينة ،وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن .
قال بعض المؤرّخين: إِنَّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن ،إِلاَّ أنَّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإِحياء الموتى بعد الموت كان صعباً جدّاً على أفراد ذلك المجتمع ،فقسم مِنهم لم يكن قادراً على التصديق بأنَّ الإِنسان يُمكن أن يعود للحياة بعدَ الموت ،إِلاَّ أنَّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعاً لأُولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني .
ولذا فإِنَّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإِنامتهم نقوم الآن بإِيقاظهم حتى ينتبه الناس: ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنَّ وعد الله حق ) ثمّ أضاف تعالى: ( وإِنَّ الساعة لا ريب فيها ) .
حيث أنَّ هذا النوم الطويل الذي استمرَّ لمئات السنين كان يشبه الموت ،وأن إِيقاظهم يشبه البعث .بل يمكن أن نقول: إِنَّ هذه الإِنامة والإِيقاظ هي أكثر إِثارة للعجب مِن الموت والحياة في بعض جوانبها ،فمن جهة قد مرَّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفنَ أو تتأثَّر ،وقد بقوا طوال هذه المدَّة بدون طعام أو شراب ،إِذن كيف بقوا أحياءً طيلةَ هذه المدَّة ؟
أليس هذا دليلا قاطعاً على قدرة الله على كل شيء ،فالحياة بعد الموت ،بعد مُشاهدة هذه القضية ممكنة حتماً .
بعض المؤرّخين كتب يقول: إِنَّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه ،عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى ،وقد تعجب كل منهم ،وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإِخوان ،ولم يبق مِن أصحابهم أحد ،أصبحت الحياة بالنسبة إِليهم صعبة للغاية ،فطلبوا مِن الخالق جلَّ وعلا أن يُميتهم ،وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته .وهذا ما حدث .
لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربَّهم ،وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصلهُ الناس .
وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين مَن لم يعتقد به ،فالمعارضون للمعاد كانوا يُريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة ،كي يُسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع ،لذا فقد اقترح هؤلاء أن تُغلق فتحة الغار ،حتى يكون الكهف خافياً إلى الأبد عن أنظار الناس .قال تعالى: ( إِذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ) .
ولأجل إِسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيراً ،إِنَّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز !!لذلك فإِن: ( ربّهم أعلم بهم ) .أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم .
أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّاً لإِثبات المعاد بعد الموت ،فقد جَهدوا على أن لا تُنسى القصة أبداً لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجداً ،وبقرينة وجود المسجد فإِنَّ الناس سوف لن ينسوهم أبداً ،بالإِضافة إلى ما يتبرك بهِ الناس مِن آثارهم: ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنَّ عليهم مسجداً ) .
وفي تفسير الآية ذُكرت احتمالات أُخرى سنقف على بعضها في البحوث .
بحوث
المسجد إلى جوار المقبرة
ظاهر تعبير القرآن أنَّ أصحاب الكهف ماتوا أخيراً ودفنوا ،وكلمة «عليهم » تؤيِّد هذا القول .بعد ذلك قرَّر محبّوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم ،وقد ذكر القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تُنم عن الموافقة ،وهذا الأمر يدل على أنَّ بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليسَ أمراً محرماًكما يظن ذلك الوهابيونبل هو عمل حلال ومُحَبَّذ ومطلوب .
وعادة فإِنَّ بناء الأضرحة التي تُخلَّد الأشخاص الكبار أمرٌ شائع بين أُمم العالم وشعوبه ،ويبيّن جانب الاحترام لمثل هؤلاء الأشخاص ،وتشجيع لمن يأتي بعدهم ،والإِسلام لم ينه عن هذا العمل ،بل أجازه وأقرّه .
إِنَّ وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات والرموز وعلى منهجها ومواقفها ،ولهذا السبب فإِنَّ الأنبياء والشخصيات الذين هُجرت قبورهم فإنّ تأريخهم أمسى موضعاً للشك والاستفهام .
ويتّضح مِن ذلك أيضاً أن ليس هُناك تضاد بين بناء المساجد والأضرحة وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى ،بل هما موضوعان مُختلفان .
بالطبع هُناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليرجع إلى مظانها .