أعثر الله عليهم وعددهم
بعثهم الله تعالى من منامهم ، وما كان يعلم أحد برقودهم ، ولا ببعثهم حتى عثروا عليهم فعلموا ما كان منهم وما آل إليه أمرهم ، فلما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة يلتمس لهم طعاما هو أزكى وأطيب وأنمى لهم ، وعرضوا ورقهم ويظهر أنه كان نقدا مضروبا على اسم ملك يومئ إلى العهد الذي أووا فيه إلى الكهف ، وضرب الله على آذانهم بعد أن ربط على قلوبهم أمام جبروت الطاغوت الذي كان يضطهد أتباع عيسى في عهدهم ، فلما اطلع الناس على هذا الورق فيقال إنه أخذ إلى الملك ، ويقولون إن الملك كان نصرانيا مسيحيا يؤمن بالوحدانية ، وبأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكانت أخبار فتية الكهف كما يبدوا تتوارث في الأوساط النصرانية المسيحية الموحدة ، لأن أخبار اضطهاد الملوك والمضطهدين تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل ، وإن أخبار أهل الكهف معروفة في الأوساط النصرانية على أنها أخبار لشهداء وصديقين ، وقد رأينا ذلك في كتاب الكنز الثمين ، ويقال إن الملك ذهب مع أحدهم الذي كان يشتري لهم الطعام ، فأخذه إلى الكهف وذهب إلى الذين كانوا معه ولكنه لم يدخله بينهم .
بهذه الطريقة أعثر الله تعالى عليهم ، أي أطلعهم عفوا من غير قصد للإطلاع ، ذلك أن أحدهم هو الذي عرفهم مصادفة بما معه من نقود تدل على تاريخها ، والتاريخ النصراني العام عرفهم بأمرهم . قال تعالى:
{ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وإن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا 21} .
وقوله تعالى:{ ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} ، أن الإعثار عليهم بعد أن غيبوا وبعثوا ليعلموا بهذه الأدوار أمرين:
الأمر الأول:أن وعد الله تعالى بالبعث والنشور ، وأن الناس ينامون كما يموتون وأنهم يبعثون كما يستيقظون ، وأنهم للجنة أبدا ، أو للنار أبدا – هو وعد حق .
الأمر الثاني:أن الناس لم يخلقوا سدى ، وأن الساعة وهي القيامة آتية لا ريب فيها ، فلا يرتاب فيها مرتاب يدرك الحياة وغايتها ونهايتها .
ويظهر أنهم لم يعيشوا طويلا ، بعد أن أعثر عليهم ، بل ماتوا ولم يضرب على آذانهم فقط ، وأنهم من بعدهم تنازعوا في أمرهم ، ماذا يصنعون لهم تكريما لشأنهم ، وثباتهم في الحق والبلاء .
ولذا قال:{ إذ يتنازعون بينهم أمرهم} ،{ إذ} ظرف زمان للماضي متعلق في الظاهر بقوله تعالى:{ أعثرنا} ، أي أن النزاع في أمرهم يبنون عليهم بنيانا أو مسجدا ، إنما كان في وقت العثور ، وهذا يدل على أنهم لم يعيشوا إلا بقدر بعثهم والعثور عليهم ليكونوا حجة قائمة شاهدة حسية بعلمه ، وماتوا فور هذا ، ولذا كان زمن العثور هو زمن التنازع في أمرهم مما يدل على اتحادهما أو على قربهما قربا يشبه الوحدة الزمنية .
والتنازع هنا هو الاختلاف الذي يتضمن تعصب كل صاحب رأى لرأيه ، حتى وصل إلى درجة التنازع ، وقد اتفق الطرفان المتنازعان على ضرورة تكريمهم بإظهار علامة تشير إلى مكانهم ليكون ذلك حافزا على الثبات في اليقين والفداء للدين ، فالتكريم كان لمعنى الصبر في البلاء مع قتلهم ، فإنه كلما قل النصير كان الجهاد والصبر والبلاء المبين .
تنازعوا أمرهم على جانبين ، فريق رأى يكون بنيانا يقام على قبورهم ،{ فقالوا ابنوا عليهم بنيانا} كقباب أو نحو ذلك من الأبنية المعلمة ، وإذا كانوا قد تنازعوا في تكريمهم فهم ليسوا بأعلم بأمرهم من الله الذي حفظ أجسامهم فيها الحياة مع السكون على مر العصور ويظهر أن الذين اتجهوا إلى بقاء ذكرهم بالبناء كانوا ممن يتأثرون بالرومان في تخليد موتاهم بالبنيان والأحجار ، ولذلك اعترض القرآن الكريم على كلامهم بجملة معترضة ، فقال عز من قائل:{ ربهم أعلم بهم} ، أي أن ربهم الذي خلقهم ورباهم على التقوى والإيمان وأفرغ في قلوبهم الصبر أعلم بأمرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يبنوا عليهم بنيانا فهو وحده العليم بما هو خليق ، وليسوا يكرمون بالبنيان إنما يكرمون بالجزاء الأوفى في الآخرة .
{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} ، الضمير في{ أمرهم} يعود إلى المتنازعين ، أي أن المتنازعين غلبوا على أمرهم ، أن يبنوا مسجدا ، وأكدوا بناء المسجد فقالوا:{ لنتخذن عليهم مسجدا} ، أي فوق الأرض التي دفنوا فيها وأكدوا اتخاذ المسجد بلام القسم ، وبالقسم ، وبنون التوكيد الثقيلة ، أي أنه رأي انتهوا إليه وجزموا به ، وحسم النزاع عنده ، واتخاذ المسجد منهي عنه إذا اتخذوا قبر النبي أو الرجل الصالح وثنا يعبد ، أما إذا كان مجرد مكان للسجود ، وإقامة الصلاة فذلك لا يوجد فيه نهي قاطع .