وفيها تأديب من الله لرسوله ( ص ) .إذ أمره أن يعلق كل شيء بمشيئة الله ؛فإن من الحقائق المسلمة في دين الله الاعتقاد بأن: ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .فإذا عزم المسلم على شيء ليفعله في المستقبل عليه أن يرد ذلك لمشيئة الله بقوله: إن شاء الله .
قوله: ( واذكر ربك إذا نسيت ) إذا نسيت كلمة الاستثناء وهي: إن شاء الله ،أو بمشيئة الله ،ثم ذكرتها فتداركها بالذكر وهو أن تقولها عقب زوال النسيان .
وروي عن ابن عباس قوله في الرجل يحلف: له أن يستثني ولو إلى سنة ،استنادا إلى إطلاق هذه الآية .لكن قول ابن عباس هذا قد حمل على تدارك التبرك بالاستثناء ؛فإن من السنة أن يقول المرء إن شاء الله ولو بعد سنة ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث .وليس المقصود أن يكون الاستثناء رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة ؛أي أن الاستثناء الذي يتغير به الحكم من حنث وكفارة فلا يصح إلا متصلا ؛فإن من شروط صحة الاستثناء في اليمين الاتصال .وهو كون الاستثناء متصلا باليمين فلا يفصل بينهما كلام من غير صيغة الحلف ،ولا أن يفصل بينهما سكون لغير ضرورة .فإن أقسم الحالف بالله ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا ثم صمت صمتا طويلا يمكن الكلام فيه وكان ذلك لغير ضرورة أو حاجة ،أو تكلم عقب الحلف كلاما من غير جنس اليمين ثم قال بعد ذلك: إن شاء الله ؛فمثل هذا الاستثناء غير متصل باليمين بل هو منفصل فلا يؤثر في الحلف .
أما السكوت بعد اليمين لضرورة: فإنه لا يؤثر في صحة الاستثناء ،ولا يكون الحالف بذلك حانثا .وذلك كما لو انقطع نفس الحالف عقيب الحلف ؛أو انقطع صوته لعيّ أو عارض من عطش ،أو سكت سكتة خفيفة من أجل التذكر .وهو قول الجمهور من العلماء{[2797]} .
وثمة مسألة وهي: هل الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى ،رخصة من الله في اليمين خاصة لا تتعداه إلى غير ذلك من الأيمان ؟
ثمة قولان للعلماء في ذلك:
القول الأول: إن الاستثناء نافع في كل يمين كالطلاق والعتاق ؛لأنها يمين تنعقد مطلقة ،فإذا قرن بها ذكر الله على طريق الاستثناء كان ذاك مانعا من انعقادها كاليمين بالله .وهو قول الحنفية والشافعية .وقال به مالك وآخرون .ودليلهم في ذلك قول رسول الله ( ص ):"من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث "ومثل هذه الأقسام يندرج في مفهوم اليمين .فلو قال الرجل: أنت طالق بمشيئة الله ،أو إلا أن يشاء الله ،أو ما شاء الله ،أو بإرادة الله ،أو بقضاء الله أو بقدرة الله ؛فهذه كلها أيمان ويحلها الاستثناء .
القول الثاني: إن الاستثناء في الحلف بغير الله لا يؤثر ولا يفيد .
ودليل ذلك قوله تعالى: ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) ولا يدخل في هذه الأيمان سوى اليمين الشرعية وهي الحلف بالله وأسمائه وصفاته فقط .فالاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى إنما هو رخصة وردت في اليمين خاصة ،ولا تنسحب على غيره من الأيمان كالطلاق والعتاق ،وذهب إلى ذلك بعض المالكية .وقال به الحسن البصري وقتادة وسعيد بن المسيب وآخرون{[2798]} .
قوله: ( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) وهذا دعاء يقوله للناس بعد الذكر ،وجملته: عسى ربي أن يهديني لغير ما نسيته مما هو أقرب رشدا وأقرب خيرا ونفعا .