كيفية مواجهة المؤمن للمستقبل
كيف يواجه المؤمن المستقبل ؟وكيف يفكر في المشاريع العملية التي يريد أن يقوم بها في دائرته ؟
ربما كان من الطبيعي أن يخطط له في ما يحتاج إليه من وسائل وظروفٍ وشروط ومواقع ،لأن ذلك هو الأساس في أيّ عمل له مقدمات تتحرك نحو النتائج .
ولكن هل يعتبر المسألة حاسمةً عندما يستكمل ذلك كله في التخطيط أو في التحضير ،أم لا بد له من أن يبقى في مرحلة الانتظار للمفاجآت والمتغيرات التي يمكن أن تجمِّد المشروع ،أو تقلب الأمور رأساً على عقب ؟
ربما يختار البعض الموقف الأول ،لأن ذلك هو السبيل للانفتاح على الواقع والحياة التي أودع الله فيها سننه الكونية والعملية التي تخضع الحركة لقانون السببية ،الذي يربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ،ما يجعل من النتائج أوضاعاً حاسمة فيما إذا استجمعت القضية شروطها الموضوعية وأسبابها الطبيعيّة ،ولولا ذلك لتعطّل الجهد عن التحرك نحو الأشياء من موقع الإرادة الحاسمة .
وقد يرى هذا البعض أن هذا الاتجاه يمنع الخطوات من الاهتزاز ،والوعي من حالة القلق ،ويؤدي بالتالي إلى مواجهة الحياة من موقع القوّة .
إلاّ أن للقرآن أسلوباً آخر في المسألة ،فهو لا يمنع الارتباط بقانون السببيّة ،ولكنه يريد للإنسان أن يعيوراء ذلكالسبب الأعمق للأشياء ،الذي يمكن أن يمحو ويثبت ويغيِّر ويبدِّل بحسب مشيئته المهيمنة على الكون كله .ولذلك فإن سببيّة أيّ شيء لشيء لا يفرض حتمية المسبّب ،لأن مشيئة الله ،إذا جاءت على خلاف ذلك ،كانت الغالبة على الأسباب من خلال ما تفرضه وتقتضيه .ولهذا جاءت هذه الآية التي توحي بالعقيدة الصافية في المسألة الإلهيّة ،في الدائرة التي يتحرك فيها علم الإنسان وإرادته ،أمام الدائرة التي يتعلق بها علم الله وإرادته ،فإن الإنسان قد يعلم شيئاً من الأسباب ،ولكنه لا يحيط بكثير منها ،لا سيَّما الأسباب الخفية ،كما أن إرادته لا تحيط بكل مواقع المستقبل ،بينما يملك الله علم كل شيء ،ويتصل الحاضر والمستقبل بإرادته ومشيئته .
حصول ما في الغد متعلّق بمشيئة الله
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فإن ذلك هو الذي يضع الأشياء في مواقعها الطبيعية من حركة السنن الكونية في مسيرة الإنسان الذي يمتلك قدرةً محدودةً في ما يتصل بوجود الأشياء ،ولكن هناك عناصر أخرى للسببيّة كامنةً في الزمان والمكان والأشخاص الآخرين ،لا يملك الإنسان معرفتها لفقدان الأدوات التي تقوده إلى ذلك ،كما لا يملك السيطرة عليها لأنها لا تتصل باختياره .ولكن الله يعلم الغيب كله ،ويحيط بالمستقبل كله من خلال إحاطته بالحياة كلها ،فهو الذي يملك منها ما لا يملكه أحد ،ويهيمن على حركتها بما لا يهيمن عليها أحد ،ولذلك كان تعليق الفعل بمشيئته انسجاماً مع الطبيعة الواقعية للقدرات المحدودة لدى الإنسان ،ومع العقيدة الإيمانية بقدرة الله المطلقة .
وقد نستطيع توضيح المسألة في طبيعة العمل الإنساني المستقبلي من خلال حركته في الحاضر ،بدراسة الموضوع في نطاقه الواقعي في الحياة ،بعيداً عن مسألة الإيمان وعدمه ،فإن الذين يفكرون مادياً ،لا يمانعون من إمكانية حدوث ظروفٍ موضوعيةٍ ومتغيراتٍ مستقبليةٍ ،لم تكن موجودةً في الخطة الواقعية السابقة للمشروع المستقبلي عند التخطيط له ،كما لا يستبعدون عدم الاطلاع في الحاضر على بعض الزّوايا الخفية المتصلة ببعض جوانب المشروع ،لأن القائمين على أيّ مشروعٍ فرديٍ أو جماعيٍ ،لا يملكون الإحاطة بالواقع كله وبالزمن كله ،الأمر الذي يفرض تعليق النتائج الحاسمة على عدم حدوث متغيراتٍ مانعةٍ ،أو عدم انكشاف جوانب مضادّة .
وبذلك نعرف أن التعليق على مشيئة الله لا يمثل حالة اهتزازٍ في ثبات الموقف ،أو انحرافٍ عن موقع الثقة بالنفس ،بل يمثل انسجاماً مع طبيعة السنن الكونية للحياة التي يلتقي المؤمنون والكافرون على الإيمان بها ،وإن اختلفوا في السبب الأعمق الذي يكمن خلفها ،فالمؤمن يعيش معه الشعور برعاية الله للحياة كلها ضمن نظامٍ دقيقٍ حكيمٍ ،بينما يعيش الكافر الشعور بالضياع أمام الغموض المطلق الذي يلف وجود الكون .
ذكر الله في حال النسيان
{وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لأن ذلك هو الذي يحفظ لك خط التوازن في الموقف ،ويعينك على مواجهة الواقع من موقع المسؤولية ،ويقودك إلى التفكير المنفتح على خفايا الشك ...على أساس دراسة السلبيات والإيجابيات معاً ،ومحاولة التعرُّف على سبل الرشاد والضلال ،لأن التفكير بالله يجعل الإنسان واعياً لمواقع أقدامه في الطريق ،وذلك لما يُمثله إحساسه بعبوديته لله من معنى المراقبة والمحاسبة لكل فكره وشعوره وخطواته العملية في الحياة ،الأمر الذي يوحي إليه بمواجهة المسألة من خلال العمق لا من خلال السطح ،انطلاقاً من حسّ المسؤولية الروحية أمام الله في الدنيا والآخرة .
وهذا ما يؤكده القرآن في أكثر من آيةٍ ،في موضوع ذكر الله الذي يربط بينه وبين الالتفات إلى مصلحة الإنسان في نفسه ،بينما يؤدي نسيانه إلى نسيان نفسه ،وذلك بمقتضى التحرك في الواقع بما يشبه الغيبوبة العقلية والروحية عن العناصر الأساسية في حركة الحياة .وهذا ما يريد الله إثارته في هذه الفقرة من الآية ،فيدعو المؤمن إلى أن يذكر ربه ،فلا يستسلم للنسيان الذي تفرضه عليه الأشغال والأوضاع ،ولا يستغرق في خصوصيات الواقع الذي يستهلك فكره ووجدانه ،بل يعمل على استثارة إيمانه في عملية تأمُّلٍ وتفكيرٍ ،ليذكر ربّه ،فينطلق في حياته من موقع الوعي لا من موقع النسيان ،وليعرف مواطىء قدمه في الطريق ،ملتفتاً إلى احتمالات الغوايات في ما يمكن أن يتحرك به طريق الإنسان نحو الرشاد .
{وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} في روحية الدعاء الخاشع المبتهل ،الذي ينفتح فيه المؤمن على الله ليطلب منه أن يكون معه في أجواء الهداية الواسعة التي تتسع لكل الطرق المتجهة إلى الله ،فيهديه للطريق الأقرب إلى الرشاد ،لئلا تطول عليه المسافات ،فينحرف به خط السير إلى غير ما يريد .
ولعل هذا الدعاء يمثل ،في وعي الإنسان المؤمن ،القلق الروحي الذي يدفعه لدراسة خطواته في محاولةٍ متحركةٍ لتقويمها وتصحيحها وتوجيهها في الاتجاه الصحيح ،بعيداً عن نوازع الذات ،وقريباً إلى رحاب الإيمان بالله الذي يربطه بالجانب المشرق من الحياة .