قوله تعالى:{ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} جاء في سبب هذه الآية عدة أقوال لعل أصوبها أنه بعد أن تحولت قبلة المسلمين عن بيت المقدس إلى البيت العتيق في مكة بأمر من الله أنكر اليهود ذلك واغتاظوا ،ولم يرضوا بما شرعه الله لعباده من قبلة عظيمة مستديمة يتوجون إليها وتكون لهم على الدوام مثابة .وذلك من تقدير الله وشأنه ،فهو يتعبّد الناس بما شرعه لهم من قبلة وما سواها من أحكام وشعائر من غير أن يكون له في ذلك راد أو معقب .
لقد تغيظ اليهود من ذلك أشد تغيظ ،وساءهم أن يتولى المسلمون عن قبلتهم الأولى التي كانوا عليها ،فزادوا من عداوتهم ونكارتهم للنبي وصحبه ،وجعلوا يفترون على النبي ودينه والمسلمين الأكاذيب .ويثيرون من حولهم الأراجيف ،يحفزهم إلى ذلك ضغينة وتعصب .وهو تعصب ذميم مسف ،يعتمد الصورة والشكل دون الحقيقة أو الجوهر والمضمون .ولا جرم فهو تعصب لا يستند إلى شيء من تفكير سليم أو عقيدة واعية مستبينة سليمة ،ولكنه التعصب الفارغ المتبلّد الذي يعتمد الحماقة والسفه ،ويستند إلى المزاج والهوى .
والآية تبين للناس جميعا أنه يستوي عند الله أن تكون القبلة صوب جهة أو غيرها ،فالجهات كلها من صنع الله وتقديره ،وهو سبحانه يملك الأرض والسماء والحياة والثقلين ،ويملك السماوات والأرض وما بينهما من أشياء وكوائن وما فوق التراب من أحياء نشطة تنوس أو جوامد ثوابت لا تريم ،وهو سبحانه يملك الجهات جميعا بما في الجهات من مشرق ومغرب فذلكم كله لله ،وهو محصور وبارز في قبضته وبين يديه .فلا داعي بعد ذلك أن تخاصم يهود في القبلة مادام ذلك كله مقررا بإذن الله وإرادته .فلا ينبغي أن نعبأ بالجهة في مفهومها الحسي ،ولكن العبرة في أمر الله وفي تقديره ،فهو سبحانه قد تعبّد المؤمنين باتباع القبلة التي ارتضاها وكتبها لهم سواء في ذلك مكة حيث البيت الحرام أو بيت المقدس حيث المسجد الأقصى .
وقوله:{فأينما تولوا فثم وجه الله} أينما أداة شرط تجزم فعلين وما زائدة .{تولوا} فعل الشرط مجزوم بحذف النون ،والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط .فأينما يتوجه الناس يجدوا أن الله أمامهم .فهو سبحانه لا تحيط به الجهات ،ولا تحده الأمكنة والحدود ،ويستوي عنده في المكان أو الزمان مشرق ومغرب أو قريب وبعيد ،فذلك كله في حكم الله وميزانه سواء .
فلا عبرة بعد ذلك للتشبث بالمكان الحسي المحدود الذي تشنجت عليه يهود فإن المكان والزمان لله .وكيفما كان المكان أو الزمان فإنهما محوطان بقدرة الله وعلمه وهيمنته .ومن الناحية الشرعية فقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{وحيث ما كنتم قولوا وجوهكم شطره} وقيل: بل الناسخ هو قوله تعالى:{فول وجهك شطر المسجد الحرام} وذلك يعني أن يتوجه المصلون في صلاتهم نحو الكعبة قبلتهم الأبدية ،وفي ذلك إبطال للتخيير السابق الذي يتوجهون بموجبه كما شاؤوا مشرقا أو مغربا .
ولست مطمئنا للقول بالنسخ هنا ،بل إنني أرجح أن تكون الآية محكمة .فإنه ليس بالضرورة أن يكون مدلول الآية الخيار في الصلاة بين التوجه نحو المشرق أو المغرب .بل المقصود في الغالب أن تتوجه قلوب العباد ومشاعرهم إلى الله .وأن تظل المقاصد والنوايا مشدودة نحو الخالق سبحانه ،ليستقيم العمل ويصفو من درن الشرك والرياء .
وذلك يرتبط أشد ارتباط بقضية العقيدة التي تقوم أول ما تقوم على التوحيد الخالص المبرأ من شوائب الشرك وغبش التصور .
وقوله:{إن الله واسع عليم} الله جلت قدرته يسع الناس والخلائق جميعا بعونه وإحسانه وتفضله وغفرانه ،فهو الكريم المنان الذي تتهاطل آلاؤه وخيراته على الأرض لتشمل الخليقة كلها ،فما من كائن إلا وهو عائش في حومة الفضل من الله سبحانه .وهو سبحانه عليم بخلقه ،عليم بما تجترحه الكائنات من قول أو عمل وما تكنه الصدور من مكنونات وأسرار ،كل ذلك في علم الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء{[118]} .