للّه المشرق والمغرب:
{ وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه إِنَّ اللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ} إنَّ الآية تعبّر عن حقيقة توحيدية ،وهي أنَّ اللّه ليس جسماً ليوجد في مكان دون مكان كما توجد الأجسام ،بل هو فوق المكان والزمان ،مالك كلّ شيء وخالقه ،فلا يختصّ به مكان أو جهة ؛فله المشرق والمغرب ،فأينما وجّهتم وجوهكم فإنكم ستجدون اللّه أمامكم ماثلاً في خلقه من خلال دلالة الخلق على عظمة الخالق .فإنَّ اللّه واسعٌ في ملكه وقدرته ،عليمٌ بما في قلوبكم حيث تتوجه في عبادتها وإخلاصها .
هذا هو الجوّ الذي توحيه الآية ،ولكن ماذا خلفها ،وماذا في مجالاتها من حدود ؟
هل نزلت في توجّه الإنسان إلى الصلاة ،لتكون واردة في مورد تحديد القبلة كما ينقل عن ابن عباس ،فقد روي عنه أنها نزلت في اليهود الذين أنكروا تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،أم أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة ،كما روي عن أئمة أهل البيت ( ع ) ،أم نزلت في حالات الجهل والتحيّر إذا صلّى المصلون إلى جهةٍ غير القبلة باعتقاد أنها القبلة ،كما روي عن جابر في قصة حدّثت في زمن النبيّ محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟.
ليس في الآية ما يدل على اختصاصها بحالة الصلاة أو صلاة معيّنة ،ولكن جوّها يوحي بذلك ،وبأنَّ هناك حديثاً دار بين المسلمين ،فجاءت الآية لتضع القضية في نطاقها الطبيعي الذي يلغي أسس الخلاف ؛فإذا كان اللّه قد أراد منا التوجه إلى جهةٍ من الجهات في وقت ما ،فإنَّ بإمكانه أن يوجهنا إلى جهة أخرى في وقت آخر ،لأنَّ الجهة الأولى لم تشرَّع باعتبارها مكاناً للّه ،بل لحكمةٍ يعلمها اللّه في ذلك ،فلا مانع من أن تكون هناك حكمة أخرى في جهة أخرى .أمّا قضية الاختصاص بصلاة معيّنة ،فإنها تخضع للتدقيق في المقارنة بين الآيات والرِّوايات التي عرضت لتشريع القبلة في قضايا الإطلاق والتقييد ،مما يختص الحديث التفصيلي عنه في البحث الفقهي ،وربما كان لنا أن نسجّل في لفتة سريعة ،أنَّ الآية مطلقة في جواز التوجّه إلى اللّه في أي مكان في كلّ مورد من الموارد التي يشترط فيها التوجه إليه ،إلاَّ ما دلّ الدليل على اختصاصه بجهة معينة كصلاة الفريضة مثلاً .فيبقى الباقي كصلاة التطوّع ونحوها في مجرى الإطلاق ؛وبهذا تفسّر الرِّوايات الواردة في اختصاصها بصلاة التطوّع أو بحالة الشك .وعلى أي حال ،فإنَّ هذا لا يمنعنا من التأكيد على ما ذكرناه في بداية الحديث من أنَّ الآية واردة في مقام التعبير عن حقيقةٍ توحيدية عامّة والتركيز على الانطلاق منها في مقام الالتزامات التشريعية العملية .