كانت القبلة ابتداء – وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس ، فأخذوا يشيعون في المؤمنين تبعية محمد صلى الله عليه وسلم إلى دينهم ، وقد كان من قبل يتجه إلى القبلتين ، ولكن لما هاجر كانت مكة تحت سلطان الشرك وفي قبضته والأوثان حولها ولم يكن في ظاهر الأمر أنها ستخرج من أيديهم ، وإن كان أخذ يضايقهم في عيرهم ؛ الرائح إلى الشام ، والقافل منها .
مكث المؤمنون على الاتجاه إلى بيت المقدس في صلاتهم ستة عشر شهرا حتى أذن الله تعالى بأن الأمور ستخرج من أيديهم ، وقاربت غزوة بدر الكبرى في علم الله تعالى ، فحول القبلة إلى الكعبة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على تحقيق ذلك ، وكان يقلب وجهه في السماء طالبا داعيا ، فحوله الله تعالى إليها ، فأخذ اليهود يشددون غمزهم في القول لهذا التحويل ، ويتخذون ذلك سبيلا للطعن في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، ويقولون إن ذلك تقلب في الإيمان واضطراب في معرفة الحق ، كيف يتغير من القبلة الحق – في زعمهم – إلى ما دونها ، وهم سفهاء حقا في كلامهم .
وقد بين الله سبحانه أن ذلك لا يتعلق بلب الإيمان ، فالقلب موطنه ، والله يختار أي مكان يكون القبلة وذلك مثل قوله تعالى:{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( 177 )} [ البقرة] .
لما كثر لغط اليهود قال تعالى:{ ولله المشرق والمغرب} أي أن الأرض كلها ملك لله سبحانه وتعالى مشرقها ومغربها ، وما بينهما ، والمشرق المكان الذي تشرق منه الشمس ، والمغرب المكان الذي تغرب فيه ، ولا فضل لمكان على مكان إلا باختيار الله تعالى له ،{ فأينما تولوا فثم وجه الله} أينما شرطية دالة على المكان وتولوا الفعل المجزوم بها ، لأن فعل الشرط ، والجواب دال عليه "فثم وجه الله"أي فولوه واتجهوا إليه ، فإن هناك وجه الله تعالى ، فثم بمعنى مكان أو هناك وجه الله ، والمراد ذاته العلية الكريمة وعبر بالوجه لأن الوجه بالنسبة للعباد هو الجزء الواضح البادي ، وإذا رؤي فقد رؤيت الذات ، ولذلك كان في التحدث عن الله تعالى الوجه هو الذات ، كما قال تعالى:{ كل من عليها فان ( 26 ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( 27 )} [ الرحمن] .
ومعنى{ فثم وجه الله} ، ولوا وجوهكم فإنكم ستتجهون إلى الله تعالى إذ ستجدون الله بنوره وجلاله في أي مكان . ولا يضير المكان أن يتغير الاتجاه من قبلة إلى قبلة ؛ لأنه حيث كان يجد الله فيتجه ، والأمر إليه سبحانه في اختيار مكان اتجاه المؤمن .
ثم ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ إن الله واسع عليم} والسعة بالنسبة لله تعالى سعة الملك ، فالله تعالى واسع ملكه وسلطانه لا يقتصر ملكه وسلطانه على مكان دون مكان ، بل كله في ملكه سبحانه الذي وسع ملكه كل شيء ، وهو عليم بما يجري فيه ، فالعبادة المخلصة المحسنة يعلمها ويصل إلى صاحبها ثوابها ، سبحانه وتعالى . .
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .