ليس بوالد ولا ولد
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ( 116 )
تكلم القرآن الكريم عن اليهود ، وخياناتهم وغدرهم في ماضيهم وحاضرهم وكفرهم بآيات الله تعالى ، ومع ما صنعوا ادعوا أنهم أهل الجنة ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما ، وقالوا مع النصارى:لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا أو نصرانيا ، وذكر عنهم اختلافهم وتنابذهم مع أنهم يتلون الكتاب ، ثم أشار سبحانه إلى كلامهم في شأن القبلة ولجاجتهم في التشنيع على المسلمين بشأن تحويل القبلة إلى الكعبة يقول تعالى:{ ولله المشرق والمغرب} .
وبعد ذلك يشير إلى الوثنية في الديانة النصرانية المثلثة ، التي ابتدأت بادعاء أن المسيح ابن الله ، وإذا كان اليهود قد شاركوهم في أن عزيرا ابن الله ، فإنهم لم يلجوا فيه ، ويجعلوه جزءا من دينهم ، كما لج النصارى قبحهم الله ، وزادهم ضلالا فوق ضلالهم ، ووهما فوق أوهامهم فقد ضلوا سواء السبيل ولا أمل في هدايتهم إلا أن يتخلصوا عن هذه الأوهام وإلا فذرهم في غيهم يعمهون ، وإن الله تعالى يهدي من يشاء .
وقالوا – أي النصارى ومن قاربهم من اليهود ، وإن لم يلجوا لجاجتهم – قالوا وعليهم إثم ذلك القول لأنه اختراع كاذب ، ونسب سبحانه وتعالى القول إليهم ، لأنه ضلالهم الذي به ضلوا ، وخرجوا عن التوحيد إلى الوثنية .
وقولهم هو:{ اتخذ الله ولدا} أي أن الله تعالى هو الذي اختار ولدا ، أو جعله ولدا ، وهذا يدل على زعمهم الباطل من أن الله تعالى احتاج إلى أن يكون له ولد ، ورغب فيه وأراده ، أو اشتهى كما يشتهي الأحياء أن يكون له ولد لحاجته إليه .
وقد رد الله تعالى عليهم ذلك الزعم بأربعة أدلة تدل على بطلان ذلك الزعم الوثني الذي يشابه مقالة عبدة الأصنام:
الدليل الأول:قوله تعالى:{ سبحانه} أي تنزه عن ذلك وتقدست ذاته العلية أن تكون مشابهة لأحد من الحوادث الذين يتوالدون ويتناسلون ، فهو الواحد الأحد الذي لا يشابه أحدا من خلقه ، ليس كمثله شيء ، ولو كان له ولد لكان مشابها للحوادث ولكان له زوج ، كما قال تعالى:{ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة . . . ( 101 )} [ الأنعام] وأنه لو كان له ولد تولد منه لكان له والد ، وهو منزه عن ذلك فهو الواحد الأحد الذي ليس له والد ولا ولد .
الدليل الثاني:أنه لو كان له ولد لكان مفتقدا إلى من يكمل وجوده ؛ لأن الولد امتداد لأبيه ، فهو كمال وجوده ، والله تعالى ليس بمفتقر لأحد ؛ لأنه الكامل المنفرد بالكمال ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك الدليل بقوله:{ بل له ما في السماوات والأرض} ، وبل هنا للإضراب والانتقال من تنويه إلى تنزيه ، والمعنى أن له الملك الكامل والسلطان التام في السموات والأرض ، فيستحيل أن يكون محتاجا إلى ولد ، بل كل الوجود في سلطانه ، وليس فقيرا إلى ولد يعينه ، وهو يقول:{ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ( 15 )} [ فاطر] وأن كل شيء خاضع لسلطانه مسبح بحمده كما قال تعالى:{ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( 44 )} [ الإسراء] .
الدليل الثالث:أنه إذا كان الوجود كله ملكا له ، فكيف يتخذ ولدا ، وإنه إذا كان الوجود كله ملكا له ، فكيف يكون محتاجا له ، وإن الوالد قد يحتاج للولد ليكون مسخرا في حاجاته يقوم بحق الوالد عليه ، والله لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوجود كله في قبضة يده ، وكلهم خاضعون له ؛ ولذلك قال تعالى:{ كل له قانتون} والقنوت:هو الخضوع المطلق ، والعبادة والتسبيح له سبحانه وتعالى . والتنوين في قوله تعالى:{ كل} دال على عموم كل من في الوجود خاضع لله تعالى لا يحتاج إلى من يكون في طاعته .
والقنوت يشمل العبادة من ذوي الإرادة ، ومن يقنتون بمقتضى التكوين الفطري ، والتكوين كما قال تعالى:{ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ( 15 )} [ الرعد] .
الدليل الرابع:أن الله تعالى هو الذي أبدع السماوات والأرض على غير مثال ، وخلق الوجود كله الأرض والسماء والأحياء فهو الذي ذرأ من في السماوات والأرض ، وكلهم عبيده ، كما قال تعالى:{ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ( 93 )} [ مريم] فكيف يكون له ولد ، وأنه إذا كان له ولد ، فإنه يكون من جنسه ، ويكون من مثله والله المبدع للوجود والخالق منزه عن أن يكون بعضه من الحوادث والولد بعض أبيه وبضعة منه .