القول في تأويل قوله تعالى:وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قال أبو جعفر:يعني بقوله جل ثناؤه:(وقالوا اتخذ الله ولدا) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، (وقالوا):معطوف على قوله:وَسَعَى فِي خَرَابِهَا .
* * *
وتأويل الآية:ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم:(30) (سبحانه) ، يعني بها:تنـزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل:"سبحان الله "، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (31)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ومعنى ذلك:وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم ، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده ، في ظهور آيات الصنعة فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى:كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قال أبو جعفر:اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم:معنى ذلك:مطيعون.
* ذكر من قال ذلك:
1850- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله:(كل له قانتون) ، مطيعون.
1851- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل:(كل له قانتون) ، قال:مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله.
1852- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، بمثله ، إلا أنه زاد:بسجود ظله وهو كاره.
1853- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي:(كل له قانتون)، يقول:كل له مطيعون يوم القيامة.
1854- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة:(كل له قانتون) ، قال:الطاعة.
1855- حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس:(قانتون) ، مطيعون.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية.
* ذكر من قال ذلك:
1856- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة:(كل له قانتون) ، كل مقر له بالعبودية.
* * *
وقال آخرون بما:-
1857- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله:(كل له قانتون) ، قال:كل له قائم يوم القيامة.
* * *
ولِـ "القنوت "في كلام العرب معان:أحدها الطاعة ، والآخر القيام ، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.
* * *
وأولى معاني "القنوت "في قوله:(كل له قانتون)، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية ، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله:بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم ، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة ، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟
* * *
وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله:(كل له قانتون) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام ".
* * *
وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم ، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية ، عقيب قوله:وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، فدل ذلك على صحة ما قلنا.
--------------------
الهوامش:
(31) انظر ما سلف 1:474 ، 495 .
(32) انظر ما سلف 1:251 ، وهذا الجزء 2:140 ، 377 ، 506 .
(33) في المطبوعة:"الأعشى بن ثعلبة"، وهو خطأ محض.