ثم عاد الكتاب إلى النسق السابق في تعداد مخازي أهل الكتاب والمشركين بعد ما ذكر من وعيد من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ما ذكر وبين أنه يعبد في كل مكان ، فقال جل وعز{ وقالوا اتخذ الله ولدا} فهذا عطف على قوله تعالى{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أن نصارى} وقوله{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} الخ .ويصح أن ينسب هذا إلى اليهود والنصارى والذين لا يعلمون جميعا ، وإلى فرقة واحدة منهم .ووجه العموم أن الله تعالى أخبرنا في مواضع من كتابه بأن اليهود قالت:عزير ابن الله:وأن النصارى قالت:المسيح ابن الله:وأن المشركين قالوا:إن الملائكة بنات الله .ولا فرق في الأحكام التي تسند إلى الأمم بين كونها صدرت من جميع أفراد الأمة أو صدرت من بعضهم ، فإن مثل هذا الإسناد منبئ بتكافل الأمم كما تقدم غير مرة .وقد نقل أن كلمة:عزير ابن الله:قالها بعض اليهود لا كلهم ، وكذلك اعتقاد كون الملائكة بنات الله لم يكن عاما في مشركي العرب ، وإنما عرف عن بعضهم .ثم رد على مدعى اتخاذ الولد بقوله{ سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون} نزه تعالى نفسه بكلمة ( سبحانه ) التي تفيد التنزيه ، مع التعجب مما ينافيه ، كأن الذي يعرفه تعالى لا ينبغي أن يصدر عنه مثل هذا القول الذي يشعر بأن له تعالى جنسا يماثله ، فإن قائل ذلك لا يكون على علم بالله تعالى وإنما يكون زاعما فيه المزاعم وظانا فيه الظنون ، أي تنزيها له أن يكون له ولد كما زعم هؤلاء الجاهلون الظانون بالله غير الحق ، فإنه لا جنس له فيكون له ولد منه ؛ وهذا الولد الذي نسبوه إليه تعالى لا بد أن يكون من العالم العلوي وهو السماء ، أو من العالم السفلي وهو الأرض ، ولا يصلح شيء منهما أن يكون مجانسا له عز وجل ، لأن جميع ما في السموات والأرض ملك له ، قانت لعزته وجلاله ، أي خاضع لقهره مسخر لمشيئته ، فإذا كانوا سوءا في كونهم مسخرين له بفطرتهم ، منقادين لإرادته بطبيعتهم واستعدادهم ، فلا معنى حينئذ لتخصيص واحد منهم بالانتساب إليه وجعله ولدا مجانسا له{ 19:93 إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمان عبدا} نعم إن له سبحانه أن يختص من شاء بما شاء كما اختص الأنبياء بالوحي ولكن هذا التخصيص لا يرتقي بالمخلوق إلى مرتبة الخالق ، ولا يعرج بالموجود الممكن إلى درجة الوجود الواجب ، وإنما يودع سبحانه في فطرة من شاء ما يؤهله لما شاء منه{ 20:50 أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وليست شبهة الذين اتخذوا بعض البشر آلهة بأمثل من شبهة الذين اتخذوا بعض الكواكب آلهة ، إذ التفاوت بين الشمس والقمر أظهر مثلا من التفاوت بين المسيح وبين سائر الناس الذين عبدوه وقالوا هو ابن الله أو هو الله .
وقد غلب في الملكية ما لا يعقل فقال ( له ما في السموات ) الخ لأن المراد بتسخيرها له التسخير الطبيعي الذي لا يشترط فيه الاختيار ، لا التسخير الشرعي المعبر عنه بالتكليف الذي يفعله الكاسب باختياره ، ويستوي في التسخير الطبيعي العاقل وغيره ، ولكنه في غير العاقل أظهر .ولما ذكر القنوت له تعالى جمعه بضمير العاقل فغلب فيه العقلاء لأن من شأن القنوت أن يكون من العاقل الذي يشعر بموجبه ويفعله باختياره ، وإن كان لغير العاقل قنوت يليق به .وجملة القول:أن الآية ناطقة بأن ما في السموات والأرض ملك لله تعالى ومسخر لإرادته ومشيئته لا فرق بين العاقل وغيره .فقد حكم على الجميع بالملكية وبالقنوت الذي يراد به التسخير وقبول تعلق الإرادة والقدرة ، ولكنه عند ذكر الملك عبر عنه بالكلمة التي تستعمل غالبا في غير العاقل وهي كلمة ( ما ) لأن المعهود في ذوق اللغة عرف أهلها أن الملك يتعلق بما لا يعقل ، وعند ذكر القنوت عبر عنه بضمير العقلاء لأنه من أعمالهم ، ومما يعهد منهم ويسند إليهم لغة وعرفا .وهذا كما ترى من أدق التعبير وألطفه ، وأعلى البيان وأشرفه .