ثم زاد هذين الحكمين بيانا وتأكيدا فقال{ بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}قال المفسرون ؛ إن البديع بمعنى المبدع فهو مشتق من الرباعي"أبدع "واستشهدوا ببيت من كلام عمرو بن معدى كرب جاء فيه ( سميع ) بمعنى مسمع ، وقالوا قد تعاقب فعيل ومفعل في حروف كثيرة ، كحكيم ومحكم وقعيد ومقعد وسخين ومسخن وقالوا إن الإبداع هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سبق وهو لا يقتضي سبق المادة ، وأما الخلق فمعناه التقدير وهو يقتضي شيئا موجودا يقع فيه التقدير .وإذا كان هو المبدع للسماوات والأرض والمخترع لهما والموجد لجميع ما فيهما فكيف يصح أن ينسب إليه شيء منهما على أنه جنس له ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل لأن القياس بناؤه من الثلاثي ويقول إن بديعا صفة مشبهة بمعنى لا نظير له ، وبديع السموات معناه البديعة سمواته وفي هذا ترك للقياس الذي قضى في الصفة المشبهة التي تضاف إلى الفاعل أن تكون متضمنة ضميرا يعود على الموصوف ، والحق أن تحكيم القياس فيما ثبت من كلام العرب تحكيم جائر ، فما كان للدخيل في القوم أن يعمد إلى طائفة من كلامهم فيضع لها قانونا يبطل به كلاما آخر ثبت عنهم ويعده خارجا عن لغتهم بعد ثبوت نطقهم به .فإذا كان كل واحد من الوجهين صحيح المعنى حكمنا بصحة كل منهما ، والأول أظهر ، وشواهده المسموعة أكثر .
وأما قوله{ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فمعناه أنه إذا أراد إيجاد أمر وإحداثه فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون موجودا ، فكن ويكون من كان التامة .وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا ضرب من التمثيل أي أن تعلق إرادته تعالى بإيجاد الشيء يعقبه وجوده ، كأمر يصدر فيعقبه الامتثال ، فليس بعد الإرادة إلا حصول المراد .وقال بعضهم بل هو قول حقيقي .قال الأستاذ الإمام وقد وقع هذا الخلاف من أهل السنة وغيرهم ، وعجيب وقوعه منهم ، فإن عندهم مذهبين من المتشابهات التي يستحيل حملها على ظاهرها وهما مذهب السلف في التفويض ، ومذهب الخلف في التأويل ، وظاهر أن هذا من المتشابه ، والقاعدة في تأويل مثله معروفة ومتفق عليها وهي إرجاع النقلي إلى العقلي لأنه الأصل ، وهاهنا يقولون:إن الأمر بمعنى تعلق الإرادة وأن معنى ( يكون ) يوجد .
وأقول:إن الأمر بكلمة كن هنا هو الأصل فيما يسمونه أمر التكوين ، ويقابله أمر التكليف ، فالأول متعلق صفة الإرادة ، والثاني متعلق صفة الكلام ، وأمر التكليف يخاطب به العاقل فيسمى المكلف ، ولا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم ، وأمر التكوين يتوجه إلى المعدوم كما يتوجه إلى الموجود ، إذ المراد به جعله موجودا ، وإنما يوجه إليه لأنه معلوم فالله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده وأنه سيوجد في وقت كذا .فتتعلق إرادته بوجوده على حسب ما في علمه فيوجد .وشيخ الإسلام ابن تيمية يسميه الأمر القدري الكوني ، ويسمي مقابله الأمر الشرعي .
قرأ الجمهور ( يكون ) في كل موضع بضم النون على تقدير فهو يكون كما أراد وقرأه ابن عامر بفتحها في كل موضع إلا في آل عمران والأنعام بناء على أن جواب الأمر بالفاء يكون منصوبا .
ذلك شأنه تعالى في الإيجاد والتكوين وهو أغمض أسرار الألوهية فمن عرف حقيقته فقد عرف حقيقة المبدع الأول وذلك ما لا مطمع فيه .وقد عبر عن هذا السر بهذا التعبير الذي يقر به من الفهم ، بما لا يتشعب فيه الوهم ، ولا يوجد في الكلام تعبير آخر أليق به من هذا التعبير:يقول للشيء"كن "فيكون ، فالتوالد محال في جانبه تعالى لأن ما يعهد في حدوث بعض الأشياء وتولدها من بعض فهو لا يعدو طريقين – الاستعداد القهري الذي لا مجال للاختيار فيه كحدوث الحرارة من النور وتولد العفونة من الماء يتحد بغيره ، والسعي الاختياري كتولد الناس بالازدواج الذي يساقون إليه مع اختياره والقصد إليه .وإذا كان كل واحد من الأمرين محالا على الله تعالى وكان تعالى هو المبدع لجميع الكائنات وهي بأسرها ملكه ومسخرة لإرادته فلا معنى لإضافة الولد إليه{ 37:180 – 182 سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} .