وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى:{ بديع السماوات والأرض} وبديع بمعنى مبدع أي منشئ على غير مثال سبق ، وقد أخذ بعض المفسرين من هذا دليلا على أنه لا يمكن أن يكون الإبداع متفقا مع اتخاذ الولد ، فقد قال الراغب في ذلك:"إن الأب هو عنصر للابن منه تكون ، والله مبدع الأشياء كلها فلا يمكن أن يكون عنصرا للولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلا"اه .
وإن هذا بلا ريب يتنافى مع الإبداع .
وإن الذين قالوا:إن الله اتخذ ولدا قالوا:إنه نشأ عنه ملازما له ، كما ينشأ الضوء من الشمس وكما ينشأ النور من السراج ، أي أنه نشأ من الموجد الأول نشوء المعلول من علته والمسبب عن سببه ، وهم قالوا ذلك آخذين له من الفلسفة ، وهي الأفلاطونية التي تتوافق مع النصرانية تمام التوافق ، وهي بعد أن حرفت عما جاء به المسيح عليه السلام كما هي والأفلاطونية الحديثة على سواء .
فهم يقولون:إن الله ليس فاعلا مختارا وإنما نشأ الولد نشوء المعلول عن العلة ؛ ولذلك كان رد الله تعالى عليهم بإثبات ملكه وقدرته على الخلق والتكوين ، وأنه أبدع السماوات والأرض بإرادته رد لكفرهم وضلال عقولهم ، وأوهامهم الباطلة ، التي ضلوا بها ، وأضلوا الناس بالدعوة إلى تصديقها .
ولقد بين سبحانه إرادته المختارة بأنه مبدع السماوات ، وبقوله تعالى:{ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} أي أنه إذا أراد خلق شيء ممكن قال له كن فيكون .
والواو عاطفة والمعطوف عليه بديع السماوات والأرض ، "بديع"صيغة مبالغة بمعنى مبدع فهي في معنى الفعل ؛ ولذا صح عطف الفعل عليها ، أو عطف الجملة الفعلية عليها .
وهي بيان الاختيار والفعل المنافي للتوالد ، وقضى بمعنى أنشأ وخلق وكون ، والأمر هنا هو بمعنى الشيء فإذا أراد الله تعالى خلق شيء لا يكون بتوليد شيء في شيء أو مادة من مادة ، إنما يكون بكلمة يقولها وهي "كن"والأمر أمر تكويني فيكون الشيء الذي أراده الله تعالى .
وهذا يدل على أمرين:
أولهما – أنه سبحانه وتعالى فاعل مختار يفعل ما يريد ، وأن الأشياء نشأت بإرادته المختارة ، فهو فعال لما يريد ، والأشياء لم تنشأ نشوء المعلول عن علة ، أو المسبب عن سببه .
ثانيهما – أنه لا يمكن أن يكون له ولد ، لأن الولد يتولد عن الوالد ، ولا يخلق الله تعالى الأشياء بطريقة التوالد ، من توليد لاحق بسابق ، بل إنه سبحانه وتعالى ينشئ في الابتداء ، والتوالد بين الأحياء يكون بسلطانه ، وبحكمته وهو العزيز العليم .
إن المسيحية بعد المسيح عليه السلام سارت في ذلك المسار الذي انتهى بوثنيتها وانحرافها ، وتحللها من العقيدة التي دعا إليها المسيح عليه السلام ، وهي عقيدة المسيح ، وأنه رسول الله تعالى ، وأنه عبده{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله . . . ( 172 )} [ النساء] وقد تم ذلك على النحو التالي:
أ – عندما توفى الله المسيح إليه ، توالى التعذيب على أتباعه ، والتعذيب بدأ في حياته عليه السلام في هذه الدنيا فقد اضطهده اليهود ودسوا عليه عند الرومان حتى هموا بصلبه ونجاه تعالى إذ شبه لهم ، وما قتلوه وما صلبوه . وتوالى من بعد ذلك تعذيب الرومان ، في عهد ملوك كثيرين منهم ، فكان منهم نيرون الذي كان يطلي أجسامهم بالقار ويشعل فيه ، ويسيرون في مواكبهم مشتعلين ، وكان زينة موكبه تلك المشاعل الإنسانية ، ومنهم دقلديانوس الذي قتل مقتلة عظيمة في سنة 282 ، وإنه في وسط هذا الاضطهاد كان المسيحيون يقيمون شعائرهم الدينية في الخفاء إذ كلما ظهروا عذبوا ، وكانوا إذا ظهروا أخفوا عقائدهم فكانوا يفتشون القلوب وينقبون عن خبايا النفوس ، ولا يسلم الدين مع هذا الاختفاء إذ لا يكون مرشد هاد ، ولا رقيب يمنع دخول الزيف في دينهم .
ب – وفي هذه العصور دخلت عناصر من الوثنيين يحملون وثنيتهم ، وخلطوا ما بينها وبين عقيدة التوحيد التي جاء بها المسيح عليه السلام ، وإن الاختلاط بمرضى الحقائق يجعل الضلال يسري إليهم كما تسري عدوى الأمراض .
ولعل أشد الوثنيين الذين أغاروا عليهم ، بولس ، الذي سموه رسولا ، فقد كان عدوا للمسيح في حياته في هذه الدنيا ، كان إلبا عليه يحرض الرومان ، ثم ادعى أنه دخل المسيحية ، وما دخل ، أو دخلها ليخربها وهو أول من أدخل الوثنية فيها ، واطرح فيها تعاليم المسيح اطراحا .
ج – وقد كانت الأفلاطونية الحديثة تتكون ، وأساسها أن الأوثان الرومانية فقدت قوتها ، والفلسفة هي الأخرى فقدت سلطانها ، فأرادت الأفلاطونية الحديثة أن تصل إلى نفوس الرومان باسم الدين وأرادت أن تجمع من بقايا من الوثنية ، ومن اليهودية والنصرانية التي ظهرت دينا جديدا ، فكانت النصرانية التي خرجت عن دين المسيح عليه الصلاة والسلام ، وهي جمعت بين الوثنية بألوهية وروح القدس مع الله ، واليهود باعتبار التوراة أصلا لها فصارت النصرانية .
والأفلاطونية الحديثة التي يعد أكبر رؤسائها أفلوطين المتوفى سنة 27 ميلادية تعتقد أن العالم نشأ عن الشيء الأول ، وهو الله أو العقل الأول عندهم ، ثم نشأ عنه العقل الثاني وهو ما سمي عند النصارى بالابن ، ثم نشأ عنهما الروح العامة المتصلة بالمخلوقات جميعا .
د – مع هذه الأعراض التي ظهرت في المسيحية ، ومع هذه المحاولات الوثنية كان التوحيد هو المسيطر وهو الأكثر أتباعا في القرون الثلاثة الأول والثاني والثالث ، وخصوصا في الأول والثاني ، وإذا كانت وثنية تظهر ، فإن الكثرة الموحدة تطردها كما يطرد الجسم السليم بحيوية الأمراض ويتغلب عليها ، واستمرت كذلك طول هذه القرون الثلاثة .
حتى جاء بطريق الإسكندرية ، وهي موطن الأفلاطونية الحديثة ، جاء باتفاق مع قسطنطين إمبراطور الرومان في أول القرن الرابع ، وادعى أن التوحيد بدعة في المسيحية ، وأن الأصل فيها ألوهية المسيح في زعمهم ، وأن آريوس الموحد وكان في الإسكندرية قد ابتدع التوحيد مع أن كل كنائس مصر والشام موحدة لا يرتاب أتباعها في ذلك .
وأنه يجب طرد أريوس الموحد المنكر لألوهية المسيح من المسيحية ، مع أنه صورة للكثرة المسيحية الكاثرة التي كانت منبثة في ربوع مصر والشام .
ه - دعي بسبب هذا لعقد مؤتمر عام في نيقية الذي عده النصارى المصدر الأخير لديانتهم ، دعي في هذا المجمع العام 2048 ، ثمانية وأربعون وألفا أسقف ، وجرى بينهم اختلاف ، والسائد فيهم التوحيد وإن كان انحراف من بعض الطوائف .
ولكن قسطنطين يريد الدخول في النصرانية بعد أن يصيرها قريبة من دينه بإدخال الوثنية فاختار من هذا العدد الكبير 318 أي ثمانية عشر وثلاثمائة ، وقد رضوا بما يدعو إليه ، وسلطهم على المسحيين كلهم وأعطاهم شارة الملك وصولجانه .
فقرروا ألوهية الابن أي المسيح بقيادة بطريق الإسكندرية مهد الأفلاطونية الحديثة ، وكان ذلك المجمع سنة 325 .
ولكن المسيحيين عارضوا ذلك المجمع ، واعتبروه خارجا على المسيحية ، وأيدت المعارضة مؤتمرات في الشام كمؤتمر صور .
ولكن الأفلاطونية الحديثة لم تتم فصولها ، فقد تقررت في هذا المجمع ألوهية الابن في زعمهم ، ولكن ثالوث الأفلاطونية الحديثة الله أو الأب ، أو العقل الأول ، والابن أو العقل الثاني ، وروح القدس لم يتقرر بعد ! ولذا كان لابد من أن يتقدم بطريق من الإسكندرية سنة 381 بطلب تقرير ألوهية روح القدس فانعقد مؤتمر القسطنطينية ، وقرر باقتراح بطريق الإسكندرية ألوهية روح القدس .
وبذلك تم ثالوث النصارى ، وهو ثالوث الأفلاطونية الحديثة{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة . . . ( 73 )} [ المائدة] وهم بهذا وثنيون يشركون مع الله أحدا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .