تشابه المشركين وأهل الكتاب
اليهود يتعنتون والمشركون طلبوا آيات مختلفة ، آيات حسية مطرحين الآيات المعنوية ، مع أن الله تعالى أجرى على يديه خوارق للعادات باهرة كالإسراء ، والطعام الكثير من الغذاء القليل ، وسح الماء بين يديه ، وحنين الجذع إليه وتعشيش اليمام حول الغار ، وسير السحاب معه لتضله ، ونصره بالرياح وقد اشتدت الشديدة ، وغير ذلك كثير ، ولكنه لم يتحد إلا بالقرآن ؛ لأنه الآية الكبرى ، والمعجزة الدائمة القاهرة .
ولقد قال تعالى في ذلك:{ وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم} الذين أي الذين لم يؤتوا علما سابقا وهم الأميون ، وتكون الآية الكريمة نصا في المشركين ؛ لأنهم الأميون الذين لم يعلموا كتابا ولم يكونوا من أهل الكتاب ، وقد جرى تعبير القرآن بذلك في مقابل أهل الكتاب ، ولقد طلبوا آيات مختلفة ، فطلبوا أن ينزل عليهم قرطاسا من السماء يخاطبهم به الله ، أو ملكا رسولا ، كما رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى:{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ( 8 ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( 9 )} [ الأنعام] .
وهذا على أن الذين لا يعلمون هم المشركون ، لقد طلبوا هذا وطلبوا آيات كثيرة في سورة الإسراء وتلونا من قبل قوله تعالى:{ لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} لولا هنا للتحريض والطلب ، تقارب معنى هلا ، وليست للشرط الدال على امتناع الجواب لوجود الشرط ، مثل:{ لولا أنتم لكنا مؤمنين ( 31 )} [ سبأ] والفرق اللفظي أن لو التي تكون للطلب يكون بعدها الفعل ، ولولا الشرطية يكون في صدر فعلها اسم ، كما دل على ذلك استقراء اللغويين ، وفسر كثيرون من الفقهاء ، أن الذين لا يعلمون هم من أهل الكتاب الذين حضروا عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرشح لهذا التفسير قوله تعالى:{ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم} فقد قال الذين من قبلهم أرنا الله جهرة .
وقوله تعالى:{ مثل قولهم} أي في التعنت وطلب الآيات الحسية ، وإذا كانوا قد طلبوا ذلك مع تسع آيات بينات حسية ، فإن الذين فعلوا مثلهم طلبوا ذلك مع ما هو أعظم من ذلك ، وهو القرآن المعجزة الإلهية الكبرى .
وليس في الأمر تضاد بين الرأيين ؛ ولذلك يكون الجمع بينهما أولا ، فالذين لا يعلمون الحق ، ولا يدركون معاني الإيمان طلبوا ذلك سواء أكانوا من المشركين ، أم كانوا من اليهود والنصارى المتعنتين الذين إذا كان علمهم بالكتاب فقد جهلوه أو تجاهلوه أو أنكروه ، فهم مع الذين لا يعلمون على حد سواء .
وقد بين الله سبحانه وتعالى تشابه ما بين ماضي الكافرين وحاضرهم ، فقال تعالى:{ تشابهت قلوبهم} أي أن قلوبهم تتشابه في الإلحاد في دين الله تعالى ، وتعنتهم في طلباتهم ، وجحودهم المستكن في قلوبهم الذي يظهر على أقوالهم ، فإذا كانت أقوالهم متحدة ، فلأنها ناشئة من قلوب متحدة في أنها لا تؤمن بشيء ، ولقد جاء عيسى ببينات قاطعة من إحياء للموتى وإخراج لما في القبور ، وتصوير للطين ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى . جاءهم بكل هذا فقالوا:هذا سحر مبين فالجاحد لا يؤمن بشيء وليس عدم إيمانه لنقص في الدليل ، بل كلما زاد الدليل قوة زادوا عنتا وكفروا ، وصرفوا عقولهم ونفوسهم لا في الإيمان به ، بل في إعمال الحيلة لرده .
ولذلك رد الله تعالى عليهم بقوله تعالى:{ قد بينا الآيات لقوم يوقنون} أكد الله سبحانه وتعالى أنه بين للذين لا يعلمون في الحاضر ، والذين قالوا مثل قولهم في الماضي ، وأتى لهم بآيات من شأنها أن تدخل إلى القلوب بالإيمان ، ولكن بشرط تقبل القلوب للحقيقة ، وإن من شأنها أن توقن بالحق إذا عين لها دليله ؛ ولذا قال تعالى:{ لقوم يوقنون} ، أي من شأنهم أن يوقنوا عند وجود الدليل ، لا يترددون وليس من شأنهم التردد ، وينتهي ترددهم بالجحود .
إن الدليل إذا كان قويا صدقوا بعقولهم ، ولكن إذعانهم لا يكون إلا إذا كانت قلوبهم خاضعة من شأنها اليقين ، وقد تستيقنها النفس لكن لا تسكن القلوب إلا إذا كان اليقين من القلب المؤمن بالحق أو المستعد له الذي يقذف الله تعالى في قلبه بالنور ؛ ولذا قال تعالى في شأن الجاحدين المتعنتين:{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . . 14 )} [ النمل] .
والآيات هنا إذا كانت عامة للحاضرين والماضين فهي الآيات التي سبقت لموسى ولعيسى ، وآية محمد الكبرى ، وهي القرآن العظيم الخالد الباقي إلى يوم القيامة .
ومعنى قوله:{ قد بينا الآيات} قد أنزلنا بينة مقنعة بذاتها ؛ لأنها العلامات والأمارات القاطعة في الدلالة على الله ، وعلى نبوة الرسول الذي بعثه الله تعالى .
ويلاحظ أن هذا في موضوع نسخ الآيات المعجزات ، واستبدال آية بآية ، والقرآن الكريم في هذا النسق يفصل بعضها وما عرض من أخبار اليهود والنصارى والقبلة ، والاعتراض والرد لم يكن بعيدا عن ذلك بعدا تاما .