طلبات المشركين التعجيزية للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ):
اختلف المفسرون في طبيعة الفئة التي عبّر عنها القرآن بالذين لا يعلمون ،فقال بعضهم: إنها النصارى ،وقال بعضهم: إنها اليهود ،وهو قول ابن عباس ،وقال بعضهم إنهم مشركو العرب ،كما عن الحسن وقتادة[ 1] ،ولعلّه الأقرب ،لأنه أشبه بالمصطلح القرآني في الحديث عنهم كما جاء في الآية السابقة{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ}وقوله تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}[ التوبة:6] .وقد يتأكد ذلك من خلال دراستنا للطلبات التعجيزية التي كانت تقدّم إلى النبيّ محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) في استحداث آيات جديدة مقترحة من قبل المشركين ،مما يلتقي بهذه الطلبات المذكورة في هذه الآية ،وهي أن يكلمهم اللّه وجهاً لوجه أو تأتيهم آية من الآيات التي كانوا يسمعون عنها في قصص الأنبياء .
{ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّه} لنسمع كلامه ،فنؤمن به من خلال حاسة السمع ،إذا لم نتمكن من معرفته من خلال حاسة البصر ،
{ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ}معجزة لا يقدر البشر عليها لنعرف أنَّ محمَّداً رسول من اللّه ،وليس بشراً عادياً كبقية بني البشر .{ َذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ}كما حدث ذلك لليهود ،{ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}في الكفر والتعنت والعناد والمشاعر القلقة ،التي لا تنفتح على الحقائق من موقع الجديّة الواعية التي تثير علامات الاستفهام في هذا الجانب أو ذاك للوصول إلى الحقيقة ،بل تتحرّك من العقدة المرضية التي تعمل على التنفيس عن ذاتها بالأساليب التعجيزية ،لأنهم لو عقلوا المسألة بطريقة واعية ،لعرفوا أنَّ اللّه لا يستجيب للهو اللاهين ،أو عبث العابثين الذين يقدّمون الاقتراحات من دون حاجة إليها في المجرى الكوني العام ،أو في الخطّ الرسالي الشامل ،لأنَّ خرق القوانين المألوفة مخالف لحكمة اللّه المتحرّكة في السنن الطبيعية التي أودعها اللّه في الكون ،أو في الوسائل الضرورية لإثبات صدق الأنبياء مما لا مجال فيها للتصديق العام .
فقد حفل تاريخهم بمثلها ،إذ قال الذين من قبلهم من اليهود لموسى:{ أَرِنَا اللّه جَهْرَةً}[ النساء:153] وغير ذلك ،ويضيف اللّه إلى ذلك قوله:
{ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ،ليثير أمامنا القضية التالية: وهي أنَّ المشكلة التي تواجه الأنبياء أمام شعوبهم ،هي أنهمأي شعوبهملم يكونوا في موقف الذين يريدون الحصول على القناعات الذاتية في قضايا الرسالة الإلهية ،ولهذا كانوا لا يفكرون في ما يقدَّم إليهم من آيات وبيّنات وبراهين ،بل كانوا يتنقلون من طلب إلى آخر في عملية إلهاء وإشغال وتحدّيات لا معنى لها ،لأنَّ النبيّ لم يأتِ ليغير ناموس الكون في قوانينه المودعة في الآفاق ليكون دوره الاستجابة لهم في كلّ ما يقترحونه عليه من هذه الأمور ،ولم تجعل له هذه القدرة الذاتية لو أراد ذلك ،بل الأمر للّه في ما يفعل وفي ما لا يفعل تبعاً لما يعلمه من الحكمة في ذلك كلّه ،بل كان دور النبيّ الأساس هو أن يكون بشيراً ونذيراً بالحقّ ليهتدي النّاس من خلال التبشير والإنذار ،وليس عليه إلاَّ أنْ يقدّم للنّاس ما فيه الحجة على الحقّ ثُمَّ يتجه إلى الحقّ في كلّ تفاصيله بشيراً ونذيراً ،وذلك قوله تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وتلك هي مهمته ،