{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وتلك هي مهمته ،وتلك هي مسؤوليته ،فإذا استجاب النّاس له ،فذلك هو ما يريده ويتمناه ،وإذا انحرف النّاس عنه فاختاروا الجحيم على النعيم باختيارهم الضلال على الهدى ،فلا{ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ،فهذا ما لا يسأل عنه النبيّ ،لأنه لم يحدث عن تقصير منه ،بل عن عنادٍ منهم واختيار للطريق السيىء في قضية المصير .
حدود المسؤولية:
وقد حاول المفسرون أن يعتبروا هذه الآية وأمثالها تسلية للنبيّ ،كما جاء في مجمع البيان ،حيث قالتعليقاً على الآية: وفيه تسلية للنبيّ
( صلى الله عليه وسلم ) ،إذ قيل له إنما أنت بشير ونذير ولست تسأل عن أهل الجحيم وليس عليك إجبارهم على القبول منك ،ومثله قوله:{ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[ فاطر:8] وقوله:{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}[ البقرة:272][ 2] .
أمّا نحن فلا نرى هذا الرأي ،بل نعتقد أنَّ هذه الآيات واردة في مورد وضع القاعدة الثابتة للمسؤولية التي يتحملها النبيّ من حيث هو رسول وداعية ،وتحديدها بالعناصر الاختيارية لأساليب الدعوة ووسائلها التي يملكها ،من حيث طبيعة الفكرة والكلمة والأسلوب والجوّ العام ؛أمّا الجوانب الأخرى التي تخرج عن اختياره ،وترجع إلى أشياء ذاتية في حياتهم النفسية ،أو إلى ظروف موضوعية أخرى ،فهذا ما لا يدخل في حساب مسؤوليته ،وبذلك فلا مجال لأي حزن أو خوف أو حسرة ،لأنَّ اللّه لم يرسل رسوله ليغيِّر الكون تغييراً تكوينياً بشكل غير طبيعي ،بل كلّ مهمته هي السير في عملية التغيير من خلال وسائلها الطبيعية التي لا يملك كلّ عناصرها ،فلا يكلّف إلاَّ بما يملكه في نطاق قدرته ،وليس هذا مختصاً بالنبيّ محمَّد ( ص ) أو بالأنبياء من قبله ،بل يشمل كلّ داعية إلى اللّه ،في أي موقع من مواقع الدعوة ،فليس عليه إلاَّ أن يفجر كلّ طاقاته ويستخدم كلّ الأساليب والوسائل التي يملكها للوصول إلى قناعة الآخرين وتغيير الواقع ،فإذا فعل ذلك فقد قام بمسؤوليته ...وتلك هي الطريقة الواقعية العملية التي تفرغ داخله من كلّ انفعال غير طبيعي ،ما يجعله يواجه الفشل والهزيمة مواجهةً هادئة لا تنسحق أمام نتائج الهزيمة وعناصرها ،بل تقف في ساحة الواقع لتجمع العناصر الجديدة الممكنة التي يمكن لها أن تحوِّل الهزيمة إلى نصر ،والفشل إلى نجاح ،من خلال دراسة الأسباب الواقعية لما حدث ومحاولة التغلب عليها في حركة المستقبل .