وعي هوية الصراع:
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} قال المفسّرون في أسباب نزول هذه الآية: إنَّ النبيّ كان مجتهداً في طلب ما يرضيهم ليدخلوا في الإسلام ،فقيل له: دع ما يرضيهم إلى ما أمرك اللّه به من مجاهدتهم .وقالوافي مجالٍ آخر: كان اليهود يسألون النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) الهدنة ويُرونه أنه إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه ،فآيسه اللّه تعالى من موافقتهم[ 3] .
إننا نعتقد أنَّ ما يذكره هؤلاء المفسرون هو نوع من أنواع الاجتهاد في استيحاء القصة التي يفرضون وجودها في كلّ آية من الآيات التي يخاطب اللّه فيها نبيَّه في كلّ قضية من القضايا المتعلّقة بموقف النبيّ من العلاقات المتصلة بالآخرين ،ولكنَّنا لا نرى ضرورة في ذلك ،بل الظاهر هو أنَّ اللّه كان يريد أن يقدّم للمسلمينمن خلال النبيّالوعي العميق للواقع الذي يحيط بهم ،سواء في ذلك الواقع المتمثّل بالأشخاص الذين يخالفونهم في الدِّين ،أو المتمثّل بالأحداث والأوضاع المحيطة بهم ،ليكونوا على معرفة عميقة شاملة لما حولهم ،ما يجنّبهم خطر الوقوع في تجربة المعرفة التي قد تعرّضهم للهلاك ،وتدفعهم إلى السير في وضوح الرؤية بعيداً عن الانفعالات السريعة والأوهام الطائرة .
وقد يكون الأساس في اختيار النبيّ للخطاب ،ثُمَّ اتباع أقسى الأساليب شدّةً في خطاب اللّه له ،هو الإيحاء بأنَّ هذه القضية هي من القضايا التي تبلغ مرحلة كبيرة من الأهمية والخطورة ،بالمستوى الذي لا يمكن فيها مراعاة جانب أي شخص ،وإن كان في مستوى عظمة النبيّ محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) ،لأنَّ عظمة الأشخاص وقداستهم مستمدة من طاعتهم للّه في ما يريد وفي ما لا يريد ،فإذا انحرفوا عن الخطّولن ينحرفوا عنهسقطت عظمتهم وتحوّلوا إلى أشخاص عاديين خاطئين ،لا يملكون لأنفسهم من دون اللّه ولياً ولا نصيراً .
ويعتبر هذا الأسلوب من الأساليب البارزة في القرآن في القضية التي تتخذ جانب الخطورة على أساس العقيدة وصدقها وسلامتها من الانحراف ،وذلك كما في قوله تعالى:{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[ الزمر:65] ،وقوله سبحانه وتعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[ الحاقة:4447] .
أمّا هذه الآية ،فقد عالجت قضية من أخطر القضايا التي قد تواجه العاملين في سبيل اللّه في علاقتهم بالكافرين والمنافقين والفاسقين ،فقد يستسلم العاملون لحالة نفسية طاهرة يعيشون فيها الأمل الكبير بهداية هؤلاء المعادين للإسلام من خلال الأساليب التي يتبعونها إزاء المسلمين في ما يقدّمونه من تبريرات ،وفي ما يثيرونه من انفعالات وعواطف ،وفي ما يوحون به من أفكار حميمة توحي بقربهم إلى الحقّ ،وذلك من خلال بعض المواقف التي يتقدّمون بها في بعض مراحل الطريق ،مما يخلق انطباعاً بأنهم يتقدّمون إلى الحقّ ،وقد تخلق هذه الحالة حالة أخرى ،وهي الرغبة في إرضاء هؤلاء ببعض الكلمات والمواقف طمعاً في الحصول على صداقتهم أو رضاهم ،مما يستدعي من المسلمين تقديم تنازلات فكرية أو عملية في حالات معينة .
وقد وقع الكثيرون من العاملين في هذا الشرك الشيطاني الذي ينصبه أعداء اللّه ،فاستطاعوا أن يجروهم إلى تقديم بعض التنازلات على حساب سلامة الإسلام في عقيدته وشريعته ومواقعه ،ما أعطاهمفي نظر البسطاء من المسلمينصفة الشرعية لمبادئهم ،وأغراهمبالتاليبالمطالبة بتنازلات جديدة تبعاً لحاجة الظروف الموضوعية لذلك ،وكانت النتيجة هي إعطاء أعداء الدِّين فرصة للتقدّم وللحصول على الشرعية ،وخسارة المسلمين لكثير من المواقع الفكرية والعملية ،من خلال الفكرة التي أوحت بها هذه التنازلات ،وهي أنَّ من الممكن للمسلم المحافظة على إسلامه ،مع التنازل عن بعض جوانب عقيدته وشريعته .وما زال الأعداء يساومون ،وما زال الكثيرون منّا يقدّمون التنازلات ،ليحصلوا على رضاهم من أجل الحصول على هدايتهم ،ثُمَّ تحوّلت القضية إلى الهزيمة النفسية التي عاشها المسلمون ،من خلال الهزيمة الفكرية والسياسية والعسكرية ،ما جعلنا نلهث في سبيل الحصول على رضاهم ،كما يلهث الضعفاء في الحصول على رضى الأقوياء للحصول على الحماية والمكاسب والحاجات الصغيرة في الحياة .
وتلك هي النتيجة التي حذّر منها القرآن في أسلوبه الحاسم في خطابه للنبي محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ):{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ،إنَّ عليكيا محمَّدأن لا تجعل هدفك في مسيرتك هو الحصول على رضاهم ،لأنَّ القضية ليست قضية خصومة شخصية طارئة ليمكنك الوصول إلى تبديل حالة الخصومة بحالة الصداقة من خلال بعض التنازلات الشخصية ،بل هي قضية اعتبار هؤلاء أنهم على الحقّ وأنك على الباطل ،ما يجعل من تقديم التنازلات تشجيعاً لهم على موقفهم وإغراءً لهم بالثبات على عقيدتهم ،ليجرّوك إلى مواقع جديدة من التنازلات ،وهكذا ،لارتباط الحصول على رضاهم بالوصول إلى التنازل الأخير وهو اتباع ملتهم ،فذلك هو السبيل الوحيد لربح ثقتهم بك ...
ثُمَّ يثير اللّه القضية من قاعدة المبدأ الذي لا يحتمل مساومة أو مجاملة أو تنازلاً{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّه هُوَ الْهُدَى}وهي الصراحة في الإعلان عن الحقّ والهدى والإيحاء إلى الآخرين بأنه لا مجال لطريق غير طريق اللّه ،ولهدى غير هدى اللّه الذي يجب أن يتبع وحده ،ليعرفوا أنَّ الموقف حاسم لا مجال فيه للتراجع وللتنازل ،مهما كلّف ذلك من خصومات ومن عداء ومن انفصال في العلاقات العامة والخاصة .
ثُمَّ يتصاعد الأسلوب قوّة وشدّة ،ليخاطب الأمّة من خلال النبيّ بأسلوب القسوة الذي يوحي بالحسم في ما لو استسلم لنقاط الضعف النفسية ،
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءهُم}فانجذبت إلى جوّ الإغراء العاطفي الذي يثيرونه في نفسك ،وسرت معهم في ما يريدونه{ بَعْدَ الَّذِي جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ}
بأنك على الحقّ وأنهم على الباطل ،{ مَا لَكَ مِنَ اللّه مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}وإذا فقد الإنسان رعاية اللّه ونصرته فمن ذا الذي ينصره من اللّه ،ومن ذا الذي يرعاه بعده ؟!