وإن الذين يثيرون القول في الآيات البينات وخاصة معجزة القرآن هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين غلفت دون الهداية قلوبهم ، وتعصبوا لأوهام باطلة سيطرت على نفوسهم ، وحسبوا ألا يكون دين فوق دينهم يجب إتباعه ، وجهلوا ما عندهم ، وضلوا فيه ضلالا مبينا ، وغاضبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال تعالى:{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} في هذا النص إشارة إلى أنهم هم الذين يعارضون ، ويتعنتون ؛ لأنه سبق إليهم ما يحسبون به أنهم فوق أن يتبعوا غيرهم ، بل غيرهم عليه هو أن يتبعهم ، وقد أكد الله تعالى أن ذلك المعنى في نفوسهم ، فنفى عنهم الرضا على النبي صلى الله عليه وسلم نفيا مؤكدا للحال التي كانوا عليها عند المبعث المحمدي ؛ لأن رسالته عليه الصلاة والسلام ، واجهت في نفوسهم شعورا مملوءا بالضلال والهوى والانحراف عن الجادة المستقيمة ، ولكي يدخل الحق إليها لا بد من تفريغ ما فيها من ضلال وفساد ، وهداية النفس الخالية من فساد المنكر أقرب من النفس الممتلئة بالباطل .
فهم يريدون أن يكونوا متبوعين لا تابعين ، وتلك توجد فيهم جحودا ، وقسوة في قبول الحق لا يقل عن المشركين ، في تمسكهم برياستهم ، وشرف قبائلهم وعشايرهم ، والمنافسات بينهم .
والملة هي الشريعة ، وقد قال الراغب في مفرداته:( الملة كالدين وهي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوسلوا به إلى جوار الله تعالى ، والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي عليه السلام الذي تسند إليه نحو{ فاتبعوا ملة إبراهيم . . .( 95 )} [ آل عمران] ،{ واتبعت ملة آبائي . . . ( 38 )} [ يوسف] ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ، ولا إلى آحاد أمة النبي ، . . . لا يقال:ملة الله ، ولا يقال:ملتي ، ولا:ملته ) .
وعلى ذلك يكون:{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} أي الملة التي جاءتهم عن أحبارهم ورهبانهم ، وإن ملة اليهود ، ومثلها ملة النصارى أوهام أوجدتها شهوات حبيسة ، فملة اليهود أهواء وملة النصارى أوهام وأهواء ، وكلهم ضلال في ضلال .
ولذا قال تعالى:{ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} أكد الله سبحانه وتعالى نهي النبي صلى الله عليه وسلم باللام الدالة على القسم مع إن ، وهما أشد ألفاظ التوكيد في بيان عاقبة الاتباع ، وأنه إذا كان الاتباع المنهي عنه نهيا مؤكدا ، فالعاقبة ألا يكون لمن اتبع أهواءه إلا أن ينزل عليه عقاب الله تعالى ، ولا يكون له ولي محب يدفع عنه ، ولا نصير ينصره من غير الله .
فمعنى النص السامي أنك أيها الرسول إن اتبعت أهواءهم فإن من المؤكد أن العذاب نازل ، ولا ينجيك منه ولي ولا نصير .
وهنا ملاحظتان بيانيتان:أولاهما – أن تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد به شخصه أولا بالذات ، إنما يقصد به أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن عليهم أن يحرصوا على مجانبتهم ، وألا يغتروا بهم ، وإنه في وقت ضعف النفوس المؤمنة يكون كيد هؤلاء مستمرا ، دائما ومذهبا يصلون به إلى قلوب ضعاف الإيمان ، فقد يميلون – وإن لم يكفروا – فيستحسنوا ما عندهم ، وإنا نرى من ضعفاء الإيمان في عصرنا من يستحسنون كل ما عند النصارى واليهود ، فإذا ذكرت أحوالهم استحسنوها ، وإذا ذكرت مكارم المسلمين استهجنوها ، حتى طمع أولئك الفجرة الفسقة في بعض المسلمين ، فأخذوا يستهوونهم بكل الأساليب ، وقى الله أهل الإيمان منهم .
الملاحظة الثانية – أن هؤلاء ما عندهم ليس بدين يتبع ، ولكنه أهواء باطلة وأوهام فاسدة ، وأي عقل يدرك أن الواحد اثنان وأن الاثنين ثلاثة ؟ ! ! ولكنها أوهام ضالة ، والله المنقذ من الضلال .