وإن الله تعالى منصف في أحكامه ، فهو سبحانه وتعالى لا يعمم فتشمل البريء والسقيم ؛ ولذا بعد أن ذكر حال اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أهل الكتاب من يتلونه حق تلاوته ، ويتعرفون غايته ومراميه ، وإن هؤلاء يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويتبعونه ؛ ولذا قال تعالت كلماته:{ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} .
آتيناهم معناها أعطيناهم ، وتقبلوا العطاء بنفس شاكرة ، وعقل مدرك وقلب مؤمن ، فلم يكن إعطاؤهم كأي إعطاء ، والكتاب هو ما أعطاهم الله تعالى من قبل كتوراة موسى أخذوها من غير محاولة تحريفها ، وإنجيل عيسى أخذوه كما هو داعيا إلى الوحدانية مع الإيمان بأنه بشر كسائر البشر ، رسول كغيره من الرسل أولي العزم ، ليس ابنا ولا إلها ، قال لقومه:اعبدوا الله ربي وربكم ، فالكتاب هو كتاب أهل الكتاب ، وهم الذين عرفوه ، وقوله تعالى:{ يتلونه حق تلاوته} أي يتعرفون معناه فينزجرون بزجره ، ويتعظون بعظاته ، ويعتبرون بقصصه ؛ ولذلك فسر بعضهم التلاوة في هذا المقام بالاتباع ، كما في{ والقمر إذا تلاها ( 2 )} [ الشمس] ، أي تلا الشمس أي اتبعها واستضاء بنورها .
فمعنى{ حق تلاوته} أي التلاوة الحق ، وهي التلاوة المتبعة المتفهمة المدركة ، والمتقبلة غير المعاندة . وبين سبحانه وتعالى جزاءها وأوصاف أهلها فقال تعالت كلماته:{ أولئك يؤمنون به} يصدقونه ويذعنون لما يأمر به وينهى عنه ، ويعملون بموجبه .
وهؤلاء هم من الذين قال الله تعالى فيهم:{ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ( 113 ) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ( 114 ) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين ( 115 )} [ آل عمران] .
وهم الذين قال تعالى فيهم:{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( 52 ) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( 53 ) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ( 54 )} [ القصص] .
هذا التفسير على أساس أن الكتاب هو كتاب أهل الكتاب الذين آمنوا به ولم يحرفوه عن مواضعه ، ولم يكتبوه بأيديهم ويلوون به ألسنتهم ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله .
ولكن من المفسرين من قالوا إنه القرآن الكريم ، وإطلاق اسم الكتاب عليه من غير ذكر أنه القرآن ، للدلالة على كماله وأنه لا يماثله من الكتب كتاب ولو كان سماويا ؛ لأنه الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، مثل قوله تعالى:{ ذلك الكتاب لا ريب فيه . . . ( 2 )} [ البقرة] .
ويكون معنى تلاوته أن يتدبر معناه ، ويتعظ بمواعظه ، ويعتبر بقصصه كما ذكرنا آنفا ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ{[105]} ولقد قال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه ، في معنى قوله:{ يتلونه حق تلاوته}:الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منه . ولقد قال الحسن البصري في الذين يتلونه حق تلاوته:هم الذين يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويتفهمون معانيه .
هؤلاء هم أهل الإيمان – من الماضين – بكتبهم ، المؤمنون بالقرآن الكتاب الأكمل ، أما من كفروا فقد ذكر الله تعالى ما يستميلهم ، فقال تعالت كلماته:{ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} الكفر به جحود بآياته وإنكار لأحكامه ، ومعاندة ، وقال أولئك الإشارة إليهم محكمين كفرهم متصفين به ، وحكم سبحانه بالخسران مؤكدا له بضمير الفصل هم ، وبالجملة الاسمية وبحصرهم في الخسران والله أعلم بهم .