القراءة الواعية:
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}يختلف المفسرون هنا ،كما اختلفوا في آيات مشابهة في من هم المقصودون بهذه الآية ؛فقال بعضهم: إنهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ؛وقيل: هم من آمن من اليهود كعبد اللّه بن سلام وغيره ؛وقيل: هم أصحاب محمَّد ( صلى الله عليه وسلم ) ،على أن يكون المراد بالكتاب القرآن ،بينما يكون المراد منه في القولين الأوّلين التوراة ،كما جاء في مجمع البيان[ 4] .
ولكنَّنا نحسب أنَّ هذه الآراء المذكورة اجتهادية تنطلق من الاستنتاجات والملاحظات الذاتية لأصحابها ،وليست نقلية كما نلاحظ من الآراء ؛ولعلّ الأغلب في الظنّ أنها ليست في مورد التركيز على جماعةٍ معينة ،بل هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامة في باب الإيمان والكفر ،وهي تلاوة الكتاب حقّ تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبُّر وتفكير وروحية واعية تتحرّك من موقع البحث عن الحقّ لا من موقع التعصب الأعمى ،فإنَّ ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات اللّه وما تشتمل عليه من دلائل الحقّ وبراهينه ،حيث يقود ذلك إلى الإيمان .
ومن خلال ذلك ،نفهم أنَّ الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة ،بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول ،ما يجعل من الإنسان إنساناً يتحرّك في جوّ التعنّت والتعصب والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحقّ من قريب أو بعيد .وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدّث عن السبب في كفرهم ،لأنَّ ذلك كان واضحاً في الحديث عن سبب الإيمان ،وذلك كمحاولةٍ للإيحاء لهم بضرورة التوفر على السير في خطّ القراءة الواعية للحصول عى فرص النجاح في الدنيا والآخرة .
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}وانطلقوا من خلاله إلى آفاق المعرفة ،وتحرّكت علامات الاستفهام في وجدانهم ،ليلاحقوا كلّ مفردات القضايا الفكرية والعملية ،ليحصلوا على الأجوبة الشافية من خلال القراءة الواعية:{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}في فهم عميق للمضمون الفكري ،وفي استيحاء للمشاعر الروحية ،وفي دراسةٍ لكلّ جوانبها المتصلة باللّه وبالحياة والإنسان ،ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة ،لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد ،فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من النّاس أو على العنصر الأدبي البلاغي ،بل يتحرّكون معه ككتاب عملٍ ووعيٍ وحركةٍ ومنهج للحياة ،كما جاء في الإرشاد للديلمي «يرتلون آياته ،ويتفقهون به ،ويعملون بأحكامه ،ويرجون وعده ،ويخافون وعيده ،ويعتبرون بقصصه ،ويأتمرون بأمره ،وينتهون بنواهيه ،ما هو واللّه حفظ آياته ،ودرس حروفه ،وتلاوة سوره ،ودرس أعشاره وأخماسه ،حفظوا حروفه ،وأضاعوا حدوده ،وإنما هو تدبّر آياته ،والعمل بأركانه ،قال اللّه تعالى:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ} » [ ص:29] .
وربما كان المراد بالكتاب التوراة ،وربما كان المراد به ما يشمل القرآن .وعلى كلّ حالٍ ،فإنَّ الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به النّاس من الظلمات إلى النور ،فلا فرقفي ذلكبين كتاب وكتاب ،فإنَّ كلّ كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به .{ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّ القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمن إشراقة المفاهيم الروحية والفكرية والعملية ،لا بُدَّ أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلّعون إلى حقائقه وآفاقه ،ليلتزموها عقيدة وسلوكاً وانتماءً .{ وَمن يَكْفُرْ بِهِ}من النّاس الذين لا يعيشون مسؤولية المعرفة ،ولا جدية الحوار ،ولا وعي القراءة ،بل يعيشون الحياة على أساس الغفلة واللامبالاة واللاانتماء ،ويسيرون مع كلّ ريح ،فلا يتدبرون الكتاب ،ولا يتفهمون آياته ،{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}الذين خسروا الدنيا التي يخطط الكتاب لها في خطّ التوازن الفكري والعملي ،وخسروا الآخرة التي يريد الكتاب للإنسان أن يجعلها الهدف في حركته في الدنيا ،لينال الدنيا والآخرة معاً .