{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
( البقرة:118 )
التفسير:
قوله تعالى:{وقال الذين لا يعلمون} أي ليسوا من ذوي العلم{لولا يكلمنا الله} أي هلَّا يكلمنا الله بتصديق الرسل{أو تأتينا آية} أي علامة على صدقهم ؛وهذا منهم على سبيل التعنت والعناد ؛فالتعنت قولهم:{لولا يكلمنا الله}؛والعناد قولهم:{أو تأتينا آية}؛لأن الرسل أتوا بالآيات التي يؤمن على مثلها البشر ؛وأعظمها القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؛وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله ،فعجزوا .
قوله تعالى:{كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم}؛أي مثلَ هذا القول قال الذين من قبلهم ؛وعلى هذا يكون{مثل قولهم} توكيداً لقوله تعالى:{كذلك}؛أي مثل هذا القول الذي اقترحوه قد اقترحه من قبلهم: قوم موسى قالوا:{لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [ البقرة: 55]؛فهذا دأب المكذبين للرسل ينكرون ،ويقترحون ؛وقد أُتوا من الآيات بأعظم مما اقترحوه .
قوله تعالى:{تشابهت قلوبهم}: الأولون ،والآخرون قلوبهم متشابهة في رد الحق ،والعناد ،والتعنت ،والجحود ؛من أول ما بعثت الرسل إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلمبل وإلى يوم القيامةفقلوب أهل الكفر ،والعناد متشابهة ؛إنما يختلف الأسلوب ؛قد يقترح هؤلاء شيئاً ؛وهؤلاء شيئاً آخر ؛لكن الكلام على جنس الاقتراح ،وعدم قبولهم للحق .
قوله تعالى:{قد بينا} أي أظهرنا ؛لأن «بان » بمعنى ظهر ؛و«بيَّن » بمعنى أظهر ؛و{الآيات} جمع آية ؛وهي العلامة المعيِّنة لمدلولها ؛فكل علامة تعين مدلولها تسمى آية ؛فآيات الله هي العلامات الدالة عليه .
قوله تعالى:{لقوم يوقنون} متعلقة بقوله تعالى:{بينا}؛و «الإيقان » هو العلم الذي لا يخالجه شك .
الفوائد:
1من فوائد الآية: أن أهل الباطل يجادلون بالباطل ؛لأن طلبهم الآيات التي يعينونها ما هو إلا تعنت واستكبار ؛ففي الآيات التي جاءت بها الرسل ما يؤمن على مثلها البشر ؛ثم إنهم لو جاءت الآيات على ما اقترحوا لم يؤمنوا إذا حقت عليهم كلمة ربهم ؛لقوله تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [ يوسف: 96 ،97] .
2ومنها: وصف من لم يَنقَدْ للحق بالجهل ؛لقوله تعالى:{وقال الذين لا يعلمون}؛فكل إنسان يكابر الحق ،وينابذه فإنه أجهل الناس .
3ومنها: أن المشركين يقرون بأن الله يتكلم بحرف ،وصوت مسموع ؛لقوله تعالى:{لولا يكلمنا اللهفهم خير في هذا ممن يدعون أن كلام الله هو المعنى القائم في نفسه .
4ومنها: أنه ما من رسول إلا وله آية ؛لأن قولهم:{أو تأتينا آية} هذا مدَّعى غيرهم ؛إذ إن من لم يأت بآية لا يلام من لم يصدقه ؛مثلاً إذا جاء رجل يقول: «أنا رسول الله ؛آمنوا بي وإلا قتلتكم ،واستحللت نساءكم ،وأموالكم » فلا نطيعه ؛ولو أننا أنكرناه لكنا غير ملومين ؛لكن الرسل تأتي بالآيات ؛ما من رسول إلا وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يؤمن على مثلها البشر ؛فالله تعالى لا يرسل الرسل ،ويتركهم بدون تأييد .
5ومن فوائد الآية: أن أقوال أهل الباطل تتشابه ؛لقوله تعالى:{كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهموقوله تعالى:{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [ الذاريات: 52 ،53]؛وأنت لو تأملت الدعاوى الباطلة التي رد بها المشركون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من زمنه إلى اليوم لوجدت أنها متشابهة ،كما قال تعالى:{وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [ المطففين: 32]؛واليوم يقولون للمتمسكين بالقرآن ،والسنة هؤلاء رجعيون ؛هؤلاء دراويش لا يعرفون شيئاً .
6ومن فوائد الآية: أن الأقوال تابعة لما في القلوب ؛لقوله تعالى:{كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم}؛فلتشابه القلوب تشابهت الأقوال ؛ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ؛وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ألا وهي القلب »{[150]} .
7ومنها: تشابه قلوب الكفار ؛لقوله تعالى:{تشابهت قلوبهم} .
8ومنها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛لأن الإنسان المصاب إذا رأى أن غيره أصيب فإنه يتسلى بذلك ،وتخف عليه المصيبة ،كما قال تعالى:{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [ الزخرف: 39]؛فالله تعالى يسلي رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن هذا القول الذي قيل له قد قيل لمن قبله .
9ومنها: إبطال دعوى قولهم:{أو تأتينا آية} في قوله تعالى:{قد بينا الآيات} .
10ومنها: أنه لا ينتفع بالآيات إلا الموقنون ؛لقوله تعالى:{قد بينا الآيات لقوم يوقنون}؛وأما غير الموقنين فلا تتبين لهم الآيات لما في قلوبهم من الريب والشك .
11ومنها: أن الموقن قد يتبين له من الآيات ما لم يتبين لغيره ؛ويؤيده قوله تعالى:{والذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم}
[ محمد: 17] .
12ومنها: أن الآيات تنقسم إلى قسمين: آيات شرعية ،وآيات كونية ؛
فالآيات الشرعية: ما جاءت به الرسل من الوحي ؛والقسم الثاني آيات كونية: وهي مخلوقات الله الدالة عليه ،وعلى ما تقتضيه أسماؤه ،وصفاته ،كالشمس ،والقمر ،والنجوم ،والجبال ،وغيرها:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
13ومنها: زيادة العلم باليقين ؛لأن من آيات الله هذا الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛فكلما ازداد يقينك تبين لك من آيات الله ما لم يتبين لغيرك ،فيزداد علمك ؛فباليقين يزداد العلم ؛قال تعالى:{ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [ المدثر: 31]؛فكلما كان الإنسان أقوى يقيناً كان أكثر علماً ؛وكلما ازداد علمه ازداد يقينه ؛فهما متلازمان .