قوله: ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) يوجب الله قتل المشركين المقاتلين في الحرب حيث ثقفوهم .أي حيث ظفروا بهم وأخذوهم .نقول: ثقفت الشيء ثقفا بمعنى أخذته .وثقفت الرجل في الحرب أي أدركته وظفرت به .وثقفت الحديث أي فهمته بسرعة{[254]} .
ويوجب الله كذلك إخراج المشركين من البلاد التي أخرجوا منها المسلمين .والظاهر أن خصوص السبب المقصود في هذه الآية هم كفار مكة ،إذ أخرجوا المسلمين من بلادهم ( مكة ) فباتوا من بعد طلك مهاجرين ،لكن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم في الأصول .فإن الحكم بوجوب إخراج المشركين المعتدين ينسحب على كل الأحوال المشابهة التي يعتدي فيها الظالمون على المسلمين فيخرجونهم من ديارهم بغير حق .
وقوله: ( والفتنة أشد من القتلى ) تأتي الفتنة بمعنى الاستمالة .نقول فتن المال الناس أي استمالهم .وفتن فلان في دينه أو أفتن بمعنى أنه مال عنه .والفتنة بمعنى الشرك والمحنة والابتلاء{[255]} .
وجاء في المقصود من هذه الآية عدة أقوال نقتضب منها اثنين:
أولهما: أن فتنة المسلم بحمله على الكفر والبعد عن دين الإسلام وذلك بمختلف الوسائل والأسباب منها التعذيب والتخويف والتهديد ومنها الإغراء والإغواء بالمال وغيره ،فإن ذلك لهو أشد من القتل .أو أن قتل المؤمن أهون عليه من فتنته عن دينه إلى الشرك .
ثانيهما: أن فتنته عن دينه أشد نكرا من قتله للمشركين في الأشهر الحرم وقد غيَّر المشركون المسلمين بذلك ،وراحوا يصرخون بأن أصحاب محمد يقتلون الناس في الأشهر الحرم ،وبذلك يريد الله أني علم هؤلاء الضالون والظالمون أن فتنتهم للمؤمنين وصدهم عن سبيل الله وعن دينه أعظم جرما من القتل في الشهر الحرام .
قوله: ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) ينهى الله عن مقاتلة المشركين عند المسجد الحرام .أي ليس لهم أن يبدأوهم بالقتال في الحرم إلا إذا اعتدى عليهم المشركون وبدأوهم بالقتال .وفي مثل هذه الحال وجب على المسلمين أن يصدوهم ويقتلوهم جزاء عدوانهم ومبادأتهم بالقتال .
وبذلك فإن الحكم الثابت المستفاد من هذه الآية هو تحريم القتال عند المسجد الحرام باستثناء ما بينا من عدوان الكافرين ومبادأتهم .ولا ينبغي الاحتجاج في هذا الصدد بمقاتلة النبي لمشركي مكة يوم الفتح ؛وذلك لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال يوم فتح مكة:"إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ،فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعضد شجره ولا يختلى خلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ( ص ) فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ".
وقيل إن الآية منسوخة بقوله تعالى: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) والراجح أنها محكمة وليست منسوخة ،يعزز ذلك ما بيناه من دليل وهو الحديث السابق .