] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ[ أي: وجدتموهم وأدركتموهم وتمكنتم من السيطرة عليهم .
فكلّ الساحات التي يوجدون فيها هي ساحات حرب شرعية ضدّهم ،فلا مأمن لهم في أي مكان ،ولا ملاذ لهم في أي ملجأ ليعيشوا الخوف الدائم الذي لا يترك لهم مجالاً للشعور بالأمن في أي موقع من مواقع وجودهم ...إنه قانون المعاملة بالمثل .] وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ[ فقد اضطهدوا المسلمين وأبعدوهم عن مكة حتى تفرّقوا في بلاد اللّه في هجرات متعدّدة .فللمسلمين الحقّ في أن يعاملوهم بمثل ما عاملوهم به ،ولم تكن قضيتهم قضية قتال للمسلمين وإخراجهم من ديارهم ،بل كانت القضية هي ممارسة أقسى أنواع الضغوط ضدّ المسلمين من أجل فتنتهم عن دينهم تحت تأثير الضغوط الصعبة من التهديد والتعذيب والإغراء والإبعاد والتشريد .
الفتنة أشدّ من القتل:
] وَالْفِتْنَةُ[ عن الدِّينفي نظر الإسلام] أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ[،لأنَّ القتل يعني الموت الجسدي ،بينما تمثّل الفتنة عن الدِّين الموت الروحي الذي يفقد الإنسان معه نفسه ،ويتحوّل إلى عنصر ضار للحياة بدلاً من أن يكون عنصراً نافعاً لها ،ما يجعل من الجريمة جريمةً تتصل بالجانب الشخصي للإنسان ،وبالجانب العام لحياة المجتمع كلّه .
وعلى ذلك الأساس أعطاها الإسلام طابع التحدّي للحياة ،لأنها تحمل التحدّي لكلّ ما تحمله الحياة التي يريدها اللّه للإنسان من الخير الشامل ،والمحبة المرتكزة على العدل ،والتصوّر الإيجابي لكلّ ما يواجه الإنسان من مشكلات على أساس الفكر الواقعي الإنساني المسؤول الذي لا يهرب من المشكلة بل يواجهها بشجاعة ،ولا يخضع للتاريخ بل يناقشه بمسؤولية ،ولا يتعبد للمحدود ،بشراً كان أو حجراً ،بل يتمثّل فيه سرّ إبداع الخالق المطلق بعيداً عن كلّ نظرة ذاتية خاشعة للمخلوق ...وهكذا يتحرر الإنسان في أجواء الدِّين السمح الذي يبني للإنسان شخصيته على أساس الحرية أمام كلّ شيء حوله ،ليجعله عبداً للّه وحده ،ويركز للحياة قواعدها على أساس العدل الذي يتجاوز الطبقية للمساواة ،والتمييز بين النّاس للتنوّع ،ولتوزيع الفرص على أساس الأدوار التي تحتاجها الحياة ..وفي هذا الجوّ ،أراد الإسلام للإنسان أن يقاتل الذين يحاربون فيه هذا التوجه الحر للحياة وهذه الحرية الخاشعة في محراب عبوديتها للّه .ولا يعتبر الإسلام مثل هذا القتال عدواناً على الآخرين ،بل دفاعاً عن الإنسان والحياة ضدّ الذين يريدون قتل إنسانية الحياة في الإنسان .
وإذا كانت الفتنةوهي الصدّ عن الدِّينتتمثّل بالضغط النفسي ،والتعذيب الجسدي ،والتجويع الغذائي ،والحصار الاقتصادي ،ونحو ذلك مما مارسته قريش وحلفاؤها ضدّ المسلمين الذين دخلوا في الإسلام آنذاك من النساء والرجال ،وكانت قمة ذلك ما قامت به ضدّ آل ياسر وبلال الحبشي وبني هاشم في حصار الشعب ،وإلجاء المسلمين إلى الهجرة فراراً من شدّة التعذيب ،فإنها قد تتمثّل في الأوضاع الفاسدة الضاغطة على الجوّ الأخلاقي العام ،المانعة من السعي نحو إيجاد المجتمع المسلم في أخلاقيته وروحانيته ومناهجه الإسلامية بمختلف وسائل الاضطهاد الروحي ،ما يدفع بالنّاس إلى الانحراف عن الحقّ ،وقد يتمثّل بمصادرة الحريات الفكرية والسياسية والإعلامية من قبل القوى المستكبرة لمصلحة تيارات مضادة كافرة ،تتحرّك في حرياتها الضاغطة على الدِّين وأهله ،بحيث تمنع الجيل الجديد من الثبات على الإسلام ،وتنحرف بالجيل الحاضر عن الخطّ المستقيم ؛سواء كان ذلك على مستوى الحكومات أو الشخصيات أو الأحزاب المستبدة .
القتال في المسجد الحرام:
] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ[ وجاءت هذه الآية لتدلل على أنَّ للمسجد الحرام حرمته الكبيرة عند اللّه ،لأنَّ اللّه جعله قاعدة السلام للإنسان في الأرض ،فلا يحل فيه القتال مهما أمكن الامتناع عن ذلك ،ولا يجوز لأحد أن يبدأ أحداً بقتال فيه ؛ولكن الدفاع عن النفس حقّ مقدس ،فللإنسان حقّ الوقوف بقوّة ضدّ الذين يقاتلونه في هذا المكان الآمن ،لأنَّ انتهاك الحرمة لم يكن من قبل المدافعين ،بل من جانب المهاجمين ،ولذلك فإنَّ على المسلمين أن لا يشعروا بالحرج أمام حالة اضطرارهم للدفاع عن أنفسهم بقتال المشركين في المسجد الحرام ،لأنَّ ذلك هو السبيل لحماية المسجد الحرام من القوّة الطاغية الباغية التي تشوّه روحية المعاني الكبيرة في المسجد ،وتهدّم أجواء السلام في داخله ،فلا بُدَّ من قتالهم وإبعادهم عنه حتى يخلو الجوّ للخير والمحبة والتقوى والسَّلام في نهاية المطاف ،ليستمر قاعدة للأمن لكلّ النّاس في ظلّ الدعوة التي تؤمن بهذه الحقيقة ،انطلاقاً من إيمانها باللّه في شريعته الممتدة في رحاب الحقّ والعدل والأمان .
وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك في بعض المواقف التي كانت تتفجر بالحرب بينهم وبين قريش ،وذلك في ما روي في مجمع البيان عن ابن عباس في قوله تعالى:] وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّه [ الآيةنزلت هذه الآية في صلح الحديبية ،ذلك أنَّ رسول اللّه( ص ) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة ،وكانوا ألفاً وأربعمائة ،فصاروا حتى نزلوا الحديبية ؛فصدّهم المشركون عن البيت الحرام ،فنحروا الهدي بالحديبية .ثُمَّ صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ،ويعود العام القابل ،ويخلوا له مكة ثلاثة أيام ،فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء ،فرجع إلى المدينة من فوره .فلمّا كان العام المقبل ،تجهز النبيّ ( ص ) وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ،ويقاتلوهم ،وَكَرِهَ رسول اللّه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم ،فأنزل اللّه هذه الآية ..
ومن خلال هذه الآية نعرف واقعية الإسلام في التشريع في ما يحرّمه ويحلله من أشياء ،فإنَّ حرمة الأشخاص والأمكنة والأزمنة تفرض نفسها على واقع التشريع والممارسة ،ما دامت في حدودها الخاصة التي لا تصطدم بحرمة أشياء أعظم منها في مقياس القضايا الكبيرة ،فإذا اصطدمت بها في بعض المواقف ،بحيث كان الحفاظ عليها موجباً لسقوط الحرمة الأعظم ،وهي حرمة الإنسان المؤمن في نفسه ودينه ،كان للمسلمين الحقّ في تجاوز الحرمات العظيمة أمام الحرمة الأعظم ،على ما هي القاعدة الإسلامية التي يغلب فيها الجانب الأقوى في المصلحة على الجانب الأضعف .ومن هنا تأتي الاستثناءات التي تخرج بعض الأمور من القاعدة العامة في أي حكم شرعي .ولولا ذلك لأمكن للفئات الباغية أن تستغل حرمة بعض الأمكنة والأزمنة ،لتحارب الإسلام في قوّته انطلاقاً من عدم قدرة المسلمين على الردّ نظراً لحرمة الشهر أو المكان ،ما يوجب تقدّم تلك الفئات في مواقع القوّة على الإسلام والمسلمين .وهذا ما عبّرت عنه الآية الكريمة:] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ[.