/م190
ثم قال{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم ، ولا يصدنكم عنهم أنكم في الأرض الحرام إلا ما يستثنى في الآية بشرطه{ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنون في دينهم ، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة ، فرضي النبي والمؤمنين على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم ، فلم يكن من المشركين إلا أن نقضوا العهد .أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين ، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين ؟ وهل يصح أن يقال فيهم إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة ، دون الإرشاد والدعوة ؟ كلا لا يقول هذا إلا غر جاهل ، أو عدو متجاهل .
ثم زاد التعليل بيانا فقال{ والفتنة أشد من القتل} أي أن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة في المال ، أشد قبحا من القتل ، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه ، ورآه سعادة له في عاقبة أمره .والفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما .ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضا فتانة ( كجبانة ) ثم استعملت للفتنة في كل اختيار شاق ، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين ، ومنه قوله تعالى:{ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون ؟} ( العنكبوت:2 ) وغير ذلك من الآيات .
وما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} ( الحج:39 ){ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} ( الحج:40 ) الآيات .وهي أول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللا بسببه مقيدا بشروطه العادلة .
وفسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك وجرى عليه الجلال ، ورده الأستاذ الإمام بأنه يخرج الآيات عن سياقها ، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف [ قيل] ورد قولهم أيضا:إن هذه الآية ناسخة لما قبلها .وذلك أنه كبر على هؤلاء أن يكون الإذن بالقتال مشروطا باعتداء المشركين ، ولأجل أمن المؤمنين في الدين وأرادوا أن يجعلوه مطلوبا لذاته ، وقال إن هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخا للآخر ، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام فذلك شيء آخر .
ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه:المسجدَ الحرامَ فقال:{ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} أي أن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان له حينئذ .ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه أكد الإذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال{ فإن قاتلوكم فاقتلوهم} ولا تستسلموا لهم ، فالبادئ هو الظالم ، والمدافع غير آثم{ كذلك جزاء الكافرين} أي أن من سنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء فيعذبهم في مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم .وقرأ الحمزة والكسائي:ولا تقتلوهم ..حتى يقتلوكم .فإن قتلوكم فاقتلوهم .من قتل الثلاثي ويُخَرَّج على أن قتل بعض الأمة كقتل جميعها لتكافلها .والمراد حتى لا يقتلوا أحدا منكم فإن قتلوا أحدا فاقتلوهم وهو أسلوب عربي بليغ .
/خ195