ولما قامت الحجة عليهم ورأوا وضوح الدلائل والبينات وأيقنوا أنهم ماضون في الباطل ؛لجوا في المعاندة والاستكبار وتمادوا في العتو والجحود فقالوا: ( حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) بعد أن استبان زيف دعواهم وفساد مزعمهم وأن حجتهم داحضة وليس لهم أمام الحق من دليل ولا برهان إلا التلبس بالحماقة وأوهام التماثيل والأصنام ،عدلوا كعادة المكابرين والمعاندين المفلسين- إلى الطغيان والتسلط والقوة .فقال بعضهم لبعض: ( حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) أي انصروها بالانتقام من إبراهيم بما فعله فيها من تهشيم إن كنتم تنتصرون لآلهتكم .من أجل ذلك راموا تحريقه في النار مبالغة في الانتقام والتنكيل .والتحريق بالنار أفظع ضروب النكال الذي يعذب به كائن .وهم لاشتداد غضبهم وفرط تشبثهم بالأصنام وحبهم لها مع ما يخالط عقولهم من الضلال والسفه والظلم- فقد اختاروا النار لتعذيب إبراهيم بها ثم قتله جزاء ما يدعوهم من عبادة الله وحده .وما ينبغي هنا الإسهاب في بيان مسائل جانبية مما لا يخلو من إفراط الإسرائيليات ،كعدة حبسه عليه السلام ،ومدة جمع الحطب ،ومدة سنه إذ ذاك ،ومدة إقامته في النار وغير ذلك من المسائل الجانبية التي كثرت فيها الأقوال .والأهم من ذلك كله جوهر المسألة هنا وهو تمالؤ القوم المجرمين وعلى رأسهم الطاغية الأكبر نمروذ .تمالؤهم على تحريق إبراهيم في النار ؛وذلك أفظع ما تتصوره العقول عن مواجهة الطغاة لداعي الحق ،وهو ما يبتغي لهم غير الهداية والرشاد والكف عن ضلال الشرك والوثنية .
إن ذلك أشد ما تبلغه القلوب الظالمة من قسوة وحقد وتحجر وهي تؤز الظالمين المجرمين لمثل هذا التعذيب الشنيع .ومع ذلك كله فرسول الله إبراهيم مستسلم لله ،مذعن لجلاله ،راض بقدره .فما تردد أو اضطرب أو تزعزع ،وما مال أو لانَ أو استكان أو انثنى ،بل إنه كان في هذه الساعة الرهيبة العصبية لأشد بأسا من أولي البأس جميعا ،وأعظم رسوخا واستقرارا من الجبال الشم الراسيات على وجه البسيطة مع أنه كان موثوقا بالقيود والأغلال ،وكان صابرا مذعنا راضيا بما كتبه الله له من بلاء .وقيل: إن المجرمين وضعوا إبراهيم في كفة منجنيق ليقذفوه في النار من بُعد .وذلك لهول ما أعدوه من نار حامية مستعرة شارك سائرهم في إيقادها وجمع الحطب لها .فلما القوه فيها قال عليه الصلاة والسلام قولته الكريمة العظيمة: حسبي الله ونعم الوكيل .وهو ما رواه البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم قالها حين ألقي في النار وقالها محمد ( ص ) حين قالوا: ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) وذكر أن جبريل عرض إبراهيم وهو في الهواء عقيب إلقائه بالمنجنيق فقال له: ألك حاجة ؟فقال إبراهيم: أما إليك فلا وأما من الله فبلى ؛فاستحق إبراهيم من الله العون والمدد والكرامة ،وفرج الله وعونه لعباده المظلومين الصابرين دان قريب .